مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{إِنَّ ٱلۡمُتَّقِينَ فِي جَنَّـٰتٖ وَعُيُونٍ} (45)

{ إن المتقين في جنات وعيون ادخلوها بسلام آمنين ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين لا يمسهم فيها نصب وما هم منها بمخرجين }

اعلم أنه تعالى لما شرح أحوال أهل العقاب أتبعه بصفة أهل الثواب ، وفي الآية مسائل :

المسألة الأولى : في قوله : { إن المتقين } قولان :

القول الأول : قال الجبائي وجمهور المعتزلة القائلون بالوعيد : المراد بالمتقين هم الذين اتقوا جميع المعاصي . قالوا : لأنه اسم مدح فلا يتناول إلا من يكون كذلك .

والقول الثاني : وهو قول جمهور الصحابة والتابعين ، وهو المنقول عن ابن عباس أن المراد الذين اتقوا الشرك بالله تعالى والكفر به . وأقول : هذا القول هو الحق الصحيح ، والذي يدل عليه هو أن المتقى هو الآتي بالتقوى مرة واحدة ، كما أن الضارب هو الآتي بالضرب مرة واحدة ، والقاتل هو الآتي بالقتل مرة واحدة ، فكما أنه ليس من شرط الوصف كونه ضاربا وقاتلا كونه آتيا بجميع أنواع الضرب والقتل ، فكذلك ليس من شرط صدق الوصف بكونه متقيا كونه آتيا بجميع أنواع التقوى ، والذي يقوي هذا الكلام أن الآتي بفرد واحد من أفراد التقوى يكون آتيا بالتقوى ، لأن كل فرد من أفراد الماهية فإنه يجب كونه مشتملا على تلك الماهية ، فالآتي بالتقوى يجب أن يكون متقيا ، فثبت أن الآتي بفرد واحد من أفراد التقوى يصدق عليه كونه متقيا ، ولهذا التحقيق اتفق المفسرون على أن ظاهر الأمر لا يفيد التكرار .

إذا ثبت هذا فنقول : ظاهر قوله : { إن المتقين في جنات وعيون } يقتضي حصول الجنات والعيون لكل من اتقى عن شيء واحد ، إلا أن الأمة مجمعة على أن التقوى عن الكفر شرط في حصول هذا الحكم ، وأيضا فإن هذه الآية وردت عقيب قول إبليس : { إلا عبادك منهم المخلصين } وعقيب قول الله تعالى : { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان } فلأجل هذه الدلائل اعتبرنا الإيمان في هذا الحكم فوجب أن لا يزيد فيه قيد آخر ، لأن تخصيص العام لما كان بخلاف الظاهر فكلما كان التخصيص أقل كان أوفق لمقتضى الأصل والظاهر ، فثبت أن قوله : { إن المتقين في جنات وعيون } يتناول جميع القائلين بلا إله إلا الله محمد رسول الله قولا واعتقادا سواء كانوا من أهل الطاعة أو من أهل المعصية وهذا تقرير بين ، وكلام ظاهر .

المسألة الثانية : قوله تعالى : { في جنات وعيون } أما الجنات فأربعة لقوله تعالى : { ولمن خاف مقام ربه جنتان } ثم قال : { ومن دونهما جنتان } فيكون المجموع أربعة وقوله : { ولمن خاف مقام ربه جنتان } يؤكد ما قلناه ، لأن من آمن بالله لا ينفك قلبه عن الخوف من الله تعالى وقوله : { ولمن خاف } يكفي في صدقه حصول هذا الخوف مرة واحدة ، وأما العيون فيحتمل أن يكون المراد منها ما ذكر الله تعالى في قوله : { مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى } ويحتمل أن يكون المراد من هذه العيون ينابيع مغايرة لتلك الأنهار .

فإن قيل : أتقولون إن كل واحد من المتقين يختص بعيون ، أو تجري تلك العيون من بعض إلى بعض ؟ قيل : لا يمتنع كل واحد من الوجهين فيجوز أن يختص كل أحد بعين وينتفع به كل من في خدمته من الحور والولدان ، ويكون ذلك على قدر حاجتهم وعلى حسب شهواتهم ، ويحتمل أن يكون يجري من بعضهم إلى بعض لأنهم مطهرون عن الحقد والحسد .