اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{إِنَّ ٱلۡمُتَّقِينَ فِي جَنَّـٰتٖ وَعُيُونٍ} (45)

قوله تعالى : { إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ } الآياتِ ، لمَّا شرح أحوال أهل العقاب ، أتبعه بصفة أهل الثَّواب .

وروي أنَّ سلمان الفارسيِّ -رضي الله عنه- لما سمع قوله تعالى : { وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ } مَرَّ ثلاثةُ أيَّام من الخوفِ لا يعقلُ ، فَجيء به إلى رسول الله صلى لله عليه وسلم فسأله ، فقال : يا رسول الله ، نزلت هذه الآية : { وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ } : فوالذي بعثك بالحق نبيًّا ، لقد قطعت قلبي فأنزل الله –تعالى- { إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ } .

قال ابن عباس -رضي الله عنهما- : [ أراد ]{[19539]} بالمتقين : الذين اتقوا الشِّرك بالله تعالى ، والكفر به ، وبه قال جمهور الصحابة ، والتَّابعين{[19540]} .

وهو الصحيح ؛ لأنَّ المتقي هو الآتي بالتقوى مرة واحدة ، كما أن الضَّارب هو الآتي بالضرب ، والقاتل هو الآتي بالقتل مرة واحدة ، فكما أنه ليس من شرط صدق الوصف بكونه ضارباً ، وقاتلاً ، أن يكون آتياً بجميع أنواع الضرب والقتل ، ليس من شرط صدق الوصف بكونه متَّقياً كونه آتياً بجميع أنواع التقوى ؛ لأنَّ الآتي بفردِ واحدٍ من أفراد التقوى ، يكون آتياً بالتقوى ؛ لأنَّ كل فردٍ من أفراد الماهية ، يجب كونه مشتملاً على تلك الماهيَّة ، وبهذا التحقيق استدلُّوا على أنَّ الأمرَ لا يفيد التَّكرار .

وإذا ثبت هذا فنقول : أجمعت الأمة على أنَّ التقوى عن الكفر شرط في حصول الحكم بدخول الجنة .

وقال الجبائي ، وجمهور المعتزلةِ : المتقين : هم الَّذين اتَّقوا جميع المعاصي ، قالوا : لأنه اسم مدحٍ ، فلا يتناولُ إلاَّ من [ كان ]{[19541]} كذلك .

واعلم أنَّ الجنات أربعةٌ ؛ لقوله تعالى : { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ } [ الرحمن : 46 ] ثم قال : { وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ } [ الرحمن : 62 ] فيكون [ المجموع ]{[19542]} أربعة .

قوله : " وعُيُونٍ " : قرأ ابن كثيرٍ ، والأخوان ، وأبو بكر ، وابن ذكوان : بكسر عين " عِيُونٍ " منكراً ، والعينُّ معرف حيث وقع ؛ والباقون{[19543]} : بالضمِّ ، وهو الأصل .

فصل

الجنَّاتُ : البَساتِينُ ، والعُيونُ : يحتمل أن يكون المراد بها الأنهار المذكورة في قوله تعالى : { فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى } [ محمد : 15 ] ، ويحتمل أن يكون المراد من هذه العيون منافع مغايرة لتلك الأنهار .


[19539]:في أ: المراد.
[19540]:ذكره الرازي في "تفسيره" (19/152).
[19541]:في ب: هو.
[19542]:في أ: مجموعها.
[19543]:ينظر: التيسير 136، والنشر 2/226، والإتحاف 2/176، والبحر 5/445، والدر المصون 4/298.