مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَأَقۡسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهۡدَ أَيۡمَٰنِهِمۡ لَا يَبۡعَثُ ٱللَّهُ مَن يَمُوتُۚ بَلَىٰ وَعۡدًا عَلَيۡهِ حَقّٗا وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعۡلَمُونَ} (38)

قوله تعالى { وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت بلى وعدا عليه حقا ولكن أكثر الناس لا يعلمون ، ليبين لهم الذي يختلفون فيه وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين ، إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون } .

وفيه مسألتان :

المسألة الأولى : اعلم أن هذا هو الشبهة الرابعة لمنكري النبوة فقالوا : القول بالبعث والحشر والنشر باطل ، فكان القول بالنبوة باطلا .

أما المقام الأول : فتقريره أن الإنسان ليس إلا هذه البينة المخصوصة ، فإذا مات وتفرقت أجزاؤه وبطل ذلك المزاج والاعتدال امتنع عوده بعينه ، لأن الشيء إذا عدم فقد فني ولم يبق له ذات ولا حقيقة بعد فنائه وعدمه ، فالذي يعود يجب أن يكون شيئا مغايرا للأول فلا يكون عينه .

وأما المقام الثاني : وهو أنه لما بطل القول بالبعث بطل القول بالنبوة وتقريره من وجهين : الأول : أن محمدا كان داعيا إلى تقرير القول بالمعاد ، فإذا بطل ذلك ثبت أنه كان داعيا إلى القول الباطل ، ومن كان كذلك لم يكن رسولا صادقا . الثاني : أنه يقرر نبوة نفسه ووجوب طاعته بناء على الترغيب في الثواب والترهيب عن العقاب ، وإذا بطل ذلك بطلت نبوته .

إذا عرفت هذا فنقول : قوله : { وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت } معناه أنهم كانوا يدعون العلم الضروري بأن الشيء إذا فني وصار عدما محضا ، ونفيا صرفا ، فإنه بعد هذا العدم الصرف لا يعود بعينه بل العائد يكون شيئا آخر غيره . وهذا القسم واليمين إشارة إلى أنهم كانوا يدعون العلم الضروري بأن عوده بعينه بعد عدمه محال في بديهة العقل : { وأقسموا بالله جهد أيمانهم } على أنهم يجحدون في قلوبهم وعقولهم هذا العلم الضروري ، وأما بيان أنه لما بطل القول بالبعث بطل القول بالنبوة فلم يذكره على سبيل التصريح ، لأنه كلام جلي متبادر إلى العقول فتركوه لهذا العذر . ثم إنه تعالى بين أن القول بالبعث ممكن ويدل عليه وجهان :

الوجه الأول : أنه وعد حق على الله تعالى ، فوجب تحقيقه ، ثم بين السبب الذي لأجله كان وعدا حقا على الله تعالى ، وهو التمييز بين المطيع وبين العاصي ، وبين المحق والمبطل وبين الظالم والمظلوم ، وهو قوله : { ليبين لهم الذي يختلفون فيه وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين } وهذه الطريقة قد بالغنا في شرحها وتقريرها في سورة يونس .

والوجه الثاني : في بيان إمكان الحشر والنشر أن كونه تعالى موجدا للأشياء ومكونا لها لا يتوقف على سبق مادة ولا مدة ولا آلة ، وهو تعالى إنما يكونها بمحض قدرته ومشيئته ، وليس لقدرته دافع ولا لمشيئته مانع ، فعبر تعالى عن هذا النفاذ الخالي عن المعارض بقوله : { إنما قولنا لشيء إذآ أردناه أن نقول له كن فيكون } وإذا كان كذلك ، فكما أنه تعالى قادر على الإيجاد في الابتداء وجب أن يكون قادرا عليه في الإعادة ، فثبت بهذين الدليلين القاطعين أن القول بالحشر والنشر والبعث والقيامة حق وصدق ، والقول إنما طعنوا في صحة النبوة بناء على الطعن في هذا الأصل ، فلما بطل هذا الطعن بطل أيضا طعنهم في النبوة ، والله أعلم .

المسألة الثانية : قوله : { وأقسموا بالله جهد أيمانهم } حكاية عن الذين أشركوا ، وقوله : { بلى } إثبات لما بعد النفي ، أي بلى يبعثهم ، وقوله : { وعدا عليه حقا } مصدر مؤكد أي وعد بالبعث وعدا حقا لا خلف فيه ، لأن قوله يبعثهم دل على قوله وعد بالبعث .