مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{مَنۡ عَمِلَ صَٰلِحٗا مِّن ذَكَرٍ أَوۡ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤۡمِنٞ فَلَنُحۡيِيَنَّهُۥ حَيَوٰةٗ طَيِّبَةٗۖ وَلَنَجۡزِيَنَّهُمۡ أَجۡرَهُم بِأَحۡسَنِ مَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ} (97)

ثم إنه تعالى رغب المؤمنين في القسم الثاني وهو الإتيان بكل ما كان من شرائع الإسلام فقال : { من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون } وفي الآية سؤالات :

السؤال الأول : لفظة «من » في قوله : { من عمل صالحا } تفيد العموم فما الفائدة في ذكر الذكر والأنثى ؟

والجواب : أن هذه الآية للوعد بالخيرات والمبالغة في تقرير الوعد من أعظم دلائل الكرم والرحمة إثباتا للتأكيد وإزالة لوهم التخصيص .

السؤال الثاني : هل تدل هذه الآية على أن الأيمان مغاير للعمل الصالح ؟

والجواب : نعم لأنه تعالى جعل الإيمان شرطا في كون العمل الصالح موجبا للثواب . وشرط الشيء مغاير لذلك الشيء .

السؤال الثالث : ظاهر الآية يقتضي أن العمل الصالح إنما يفيد الأثر بشرط الإيمان ، فظاهر قوله : { فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره } يدل على أن العمل الصالح يفيد الأثر سواء كان مع الإيمان أو كان مع عدمه .

والجواب : أن إفادة العمل الصالح للحياة الطيبة مشروط بالإيمان ، أما إفادته لأثر غير هذه الحياة الطيبة وهو تخفيف العقاب فإنه لا يتوقف على الإيمان .

السؤال الرابع : هذه الحياة الطيبة تحصل في الدنيا أو في القبر أو في الآخرة ؟

والجواب فيه ثلاثة أقوال :

القول الأول : قال القاضي : الأقرب أنها تحصل في الدنيا بدليل أنه تعالى أعقبه بقوله : { ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون } ولا شبهة في أن المراد منه ما يكون في الآخرة .

ولقائل أن يقول : لا يبعد أن يكون المراد من الحياة الطيبة ما يحصل في الآخرة ، ثم إنه مع ذلك وعدهم الله على أنه إنما يجزيهم على ما هو أحسن أعمالهم فهذا لا امتناع فيه .

فإن قيل : بتقدير أن تكون هذه الحياة الطيبة إنما تحصل في الدنيا فما هي ؟

والجواب : ذكروا فيه وجوها قيل : هو الرزق الحلال الطيب . وقيل : عبادة الله مع أكل الحلال ، وقيل : القناعة ، وقيل : رزق يوم بيوم كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه : « قنعني بما رزقتني » وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يدعو : « اللهم اجعل رزق آل محمد كفافا » قال الواحدي وقول من يقول : إن القناعة حسن مختار لأنه لا يطيب عيش أحد في الدنيا إلا عيش القانع وأما الحريص فإنه يكون أبدا في الكد والعناء .

واعلم أن عيش المؤمن في الدنيا أطيب من عيش الكافر لوجوه : الأول : أنه لما عرف أن رزقه إنما حصل بتدبير الله تعالى ، وعرف أنه تعالى محسن كريم لا يفعل إلا الصواب كان راضيا بكل ما قضاه وقدره ، وعلم أن مصلحته في ذلك ، أما الجاهل فلا يعرف هذه الأصول فكان أبدا في الحزن والشقاء . وثانيها : أن المؤمن أبدا يستحضر في عقله أنواع المصائب والمحن ويقدر وقوعها وعلى تقدير وقوعها يرضى بها ، لأن الرضا بقضاء الله تعالى واجب ، فعند وقوعها لا يستعظمها بخلاف الجاهل فإنه يكون غافلا عن تلك المعارف ، فعند وقوع المصائب يعظم تأثيرها في قلبه . وثالثها : أن قلب المؤمن منشرح بنور معرفة الله تعالى ، والقلب إذا كان مملوءا من هذه المعارف لم يتسع للأحزان الواقعة بسبب أحوال الدنيا ، أما قلب الجاهل فإنه خال عن معرفة الله تعالى فلا جرم يصير مملوءا من الأحزان الواقعة بسبب مصائب الدنيا . ورابعها : أن المؤمن عارف بأن خيرات الحياة الجسمانية خسيسة فلا يعظم فرحه بوجدانها وغمه بفقدانها ، أما الجاهل فإنه لا يعرف سعادة أخرى تغايرها فلا جرم يعظم فرحه بوجدانها وغمه بفقدانها . وخامسها : أن المؤمن يعلم أن خيرات الدنيا واجبة التغير سريعة التقلب فلولا تغيرها وانقلابها لم تصل من غيره إليه .

واعلم أن ما كان واجب التغير فإنه عند وصوله إليه لا تنقلب حقيقته ولا تتبدل ماهيته ، فعند وصوله إليه يكون أيضا واجب التغير ، فعند ذلك لا يطبع العاقل قلبه عليه ولا يقيم له في قلبه وزنا بخلاف الجاهل فإنه يكون غافلا عن هذه المعارف فيطبع قلبه عليها ويعانقها معانقة العاشق لمعشوقه فعند فوته وزواله يحترق قلبه ويعظم البلاء عنده ، فهذه وجوه كافية في بيان أن عيش المؤمن العارف أطيب من عيش الكافر هذا كله إذا فسرنا الحياة الطيبة بأنها في الدنيا .

والقول الثاني : وهو قول السدي إن هذه الحياة الطيبة إنما تحصل في القبر .

والقول الثالث : وهو قول الحسن وسعيد بن جبير إن هذه الحياة الطيبة لا تحصل إلا في الآخرة والدليل عليه قوله تعالى : { يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه } فبين أن هذا الكدح باق إلى أن يصل إلى ربه وذلك ما قلناه ، وأما بيان أن الحياة الطيبة في الجنة فلأنها حياة بلا موت وغنى بلا فقر ، وصحة بلا مرض ، وملك بلا زوال ، وسعادة بلا شقاء ، فثبت أن الحياة الطيبة ليست إلا تلك الحياة ، ثم إنه تعالى ختم الآية بقوله : { ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون } وقد سبق تفسيره ، والله أعلم .