مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{فَرَجَعَ مُوسَىٰٓ إِلَىٰ قَوۡمِهِۦ غَضۡبَٰنَ أَسِفٗاۚ قَالَ يَٰقَوۡمِ أَلَمۡ يَعِدۡكُمۡ رَبُّكُمۡ وَعۡدًا حَسَنًاۚ أَفَطَالَ عَلَيۡكُمُ ٱلۡعَهۡدُ أَمۡ أَرَدتُّمۡ أَن يَحِلَّ عَلَيۡكُمۡ غَضَبٞ مِّن رَّبِّكُمۡ فَأَخۡلَفۡتُم مَّوۡعِدِي} (86)

المسألة السادسة : ذكروا في الأسف وجوها . أحدها : أنه شدة الغضب وعلى هذا التقدير لا يلزم التكرار لأن قوله : غضبان يفيد أصل الغضب وقوله : أسفا يفيد كماله . وثانيها : قال الأكثرون حزنا وجزعا يقال أسف يأسف أسفا إذا حزن فهو آسف . وثالثها : قال قوم : الآسف المغتاظ وفرقوا بين الاغتياظ والغضب بأن الله تعالى لا يوصف بالغيظ ويوصف بالغضب من حيث كان الغضب إرادة الإضرار بالمغضوب عليه والغيظ تغير يلحق المغتاظ وذلك لا يصح إلا على الأجسام كالضحك والبكاء ثم إن الله تعالى حكى عن موسى عليه السلام أنه عاتبهم بعد رجوعه إليهم قالت المعتزلة : وهذا يدل على أنه ليس المراد من قوله : { فإنا قد فتنا قومك من بعدك } أنه تعالى خلق الكفر فيهم وإلا لما عاتبهم بل يجب أن يعاتب الله تعالى قال الأصحاب : وقد فعل ذلك بقوله : { إن هي إلا فتنتك } ومجموع تلك المعاتبات أمور . أحدها : قوله : { يا قوم ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا } وفيه سؤالان :

السؤال الأول : قوله : { ألم يعدكم ربكم } هذا الكلام إنما يتوجه عليهم لو كانوا معترفين بإله آخر سوى العجل أما لما اعتقدوا أنه لا إله سواه على ما أخبر الله تعالى عنهم أنهم قالوا هذا إلهكم وإله موسى كيف يتوجه عليهم هذا الكلام . الجواب : أنهم كانوا معترفين بالإله لكنهم عبدوا العجل على التأويل الذي يذكره عبدة الأصنام .

السؤال الثاني : ما المراد بذلك الوعد الحسن . الجواب : ذكروا وجوها . أحدها : أن المراد ما وعدهم من إنزال التوراة عليهم ليقفوا على الشرائع والأحكام ويحصل لهم بسبب ذلك مزية فيما بين الناس وهو الذي ذكره الله تعالى فيما تقدم من قوله :{ وواعدناكم جانب الطور الأيمن } . وثانيها : أن الوعد الحسن هو الوعد الصدق بالثواب على الطاعات . وثالثها : الوعد هو العهد وهو قول مجاهد وذلك العهد هو قوله تعالى : { ولا تطغوا فيه فيحل عليكم غضبي } إلى قوله : { ثم اهتدى } والدليل عليه قوله بعد ذلك : { أفطال عليكم العهد أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم } فكأنه قال : أفنسيتم ذلك الذي قال الله لكم ولا تطغوا فيه . ورابعها : الوعد الحسن ههنا يحتمل أن يكون وعدا حسنا في منافع الدين وأن يكون في منافع الدنيا ، أما منافع الدين فهو الوعد بإنزال الكتاب الشريف الهادي إلى الشرائع والأحكام والوعد بحصول الثواب العظيم في الآخرة . وأما منافع الدنيا فهو أنه تعالى قبل إهلاك فرعون كان قد وعدهم أرضهم وديارهم ، وقد فعل ذلك ثم قال : { أفطال عليكم العهد أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم } فالمراد أفنسيتم ذلك العهد أم تعمدتم المعصية ، واعلم أن طول العهد يحتمل أمورا : أحدها : أفطال عليكم العهد بنعم الله تعالى من إنجائه إياكم من فرعون وغير ذلك من النعم المعدودة المذكورة في أوائل سورة البقرة وهذا كقوله : { فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم } . وثانيها : يروى أنهم عرفوا أن الأجل أربعون ليلة فجعلوا كل يوم بأزاء ليلة وردوه إلى عشرين . قال القاضي : هذا ركيك لأن ذلك لا يكاد يشتبه على أحد . وثالثها : أن موسى عليه السلام وعدهم ثلاثين ليلة فلما زاد الله تعالى فيها عشرة أخرى كان ذلك طول العهد ، وأما قوله : { أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم } فهذا لا يمكن إجراؤه على الظاهر لأن أحدا لا يريد ذلك ولكن المعصية لما كانت توجب ذلك ، ومريد السبب مريد للمسبب بالعرض صح هذا الكلام واحتج العلماء بذلك على أن الغضب من صفات الأفعال لا من صفات الذات لأن صفة ذات الله تعالى لا تنزل في شيء من الأجسام . أما قوله : { فأخلفتم موعدي } فهذا يدل على موعد كان منه عليه السلام مع القوم وفيه وجهان : أحدهما : أن المراد ما وعدوه من اللحاق به والمجيء على أثره . والثاني : ما وعدوه من الإقامة على دينه إلى أن يرجع إليهم من الطور ، فعند هذا قالوا : { ما أخلفنا موعدك بملكنا } وفي أن قائل هذا الجواب من هو وجهان : الأول : أنهم الذين لم يعبدوا العجل فكأنهم قالوا : إنا ما أخلفنا موعدك بملكنا أي بأمر كنا نملكه وقد يضيف الرجل فعل قريبه إلى نفسه كقوله تعالى : { وإذ فرقنا بكم البحر } ، { وإذ قتلتم نفسا } وإن كان الفاعل لذلك آباءهم لا هم فكأنهم قالوا : الشبهة قويت على عبدة العجل فلم نقدر على منعهم عنه ولم نقدر أيضا على مفارقتهم لأنا خفنا أن يصير ذلك سببا لوقوع التفرقة وزيادة الفتنة .

الوجه الثاني : أن هذا قول عبدة العجل والمراد أن غيرنا أوقع الشبهة في قلوبنا وفاعل السبب فاعل المسبب ومخلف الوعد هو الذي أوقع الشبهة فإنه كان كالمالك لنا . فإن قيل : كيف يعقل رجوع قريب من ستمائة ألف إنسان من العقلاء المكلفين عن الدين الحق دفعة واحدة إلى عبادة العجل الذي يعرف فسادها بالضرورة ، ثم إن مثل هذا الجمع لما فارقوا الدين وأظهروا الكفر فكيف يعقل رجوعهم دفعة واحدة عن ذلك الدين بسبب رجوع موسى عليه السلام وحده إليهم ، قلنا : هذا غير ممتنع في حق البله من الناس ، واعلم أن في بملكنا ثلاث قراءات ، قرأ حمزة والكسائي بضم الميم ونافع وعاصم بفتح الميم وأبو عمرو وابن عامر وابن كثير بالكسر ، أما الكسر والفتح فهما واحد وهما لغتان مثل رطل ورطل . وأما الضم فهو السلطان ،