فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَلَا نُكَلِّفُ نَفۡسًا إِلَّا وُسۡعَهَاۚ وَلَدَيۡنَا كِتَٰبٞ يَنطِقُ بِٱلۡحَقِّ وَهُمۡ لَا يُظۡلَمُونَ} (62)

ثم لما أنجز الكلام إلى ذكر أعمال المكلفين ذكر لها حكمين : الأول قوله : { وَلا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا } قد تقدم بيان هذا في آخر سورة البقرة ، وفي تفسير الوسع قولان ، الأول : أنه الطاقة ، كما فسره بذلك أهل اللغة الثاني : أنه دون الطاقة ، وبه قال مقاتل والضحاك والكلبي والمعتزلة قالوا : إن الوسع إنما سمي وسعا لأنه يتسع على فاعله فعله ، ولا يضيق عليه ، فمن لم يستطع الجلوس فليومئ إيماء ومن لم يستطع الصوم فليفطر وهذه جملة مستأنفة للتحريض على ما وصف به السابقون من فعل الطاعات المؤدي إلى نيل الكرامات ببيان سهولته ، وكونه غير خارج عن حد الوسع والطاقة ، وأن ذلك عادة الله سبحانه في تكليف عباده ، وهو رد على من جوز تكليف ما لا يطاق .

{ وَ } جملة { لَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ } من تمام ما قبلها من نفي التكليف لما فوق الوسع ، والمراد بالكتاب صحائف الأعمال أي عندنا كتاب قد أثبت فيه أعمال كل واحد من المكلفين على ما هي عليه ، يظهر به الحق المطابق للواقع من دون زيادة ولا نقص ، ومثله قوله سبحانه { هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون } وفي هذا تهديد للعصاة ، وتأنيس للمطيعين من الحيف والظلم ، وقيل المراد بالكتاب اللوح المحفوظ ، فإنه قد كتب فيه كل شيء ، وقيل المراد القرآن ، والأول أولى ، وفي هذه الآية تشبيه للكتاب ممن يصدر عنه البيان بالنطق بلسانه ، فإن الكتاب يعرب عما فيه ؛ كما يعرب الناطق المحق . .

والمعنى ينطق متلبسا بالحق ، وجملة { وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ } مبينة لما قبلها من تفضله تعالى وعدله في جزاء عباده أي النفوس العاملة لا يظلمون شيئا منها بنقص ثواب أو بزيادة عقاب ، ومثله قوله سبحانه : { ووجدوا ما عملوا حاضرا ، ولا يظلم ربك أحدا } والجمع باعتبار عموم النفس لوقوعها في سياق النفي