مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لِيَسۡتَـٔۡذِنكُمُ ٱلَّذِينَ مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُكُمۡ وَٱلَّذِينَ لَمۡ يَبۡلُغُواْ ٱلۡحُلُمَ مِنكُمۡ ثَلَٰثَ مَرَّـٰتٖۚ مِّن قَبۡلِ صَلَوٰةِ ٱلۡفَجۡرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ ٱلظَّهِيرَةِ وَمِنۢ بَعۡدِ صَلَوٰةِ ٱلۡعِشَآءِۚ ثَلَٰثُ عَوۡرَٰتٖ لَّكُمۡۚ لَيۡسَ عَلَيۡكُمۡ وَلَا عَلَيۡهِمۡ جُنَاحُۢ بَعۡدَهُنَّۚ طَوَّـٰفُونَ عَلَيۡكُم بَعۡضُكُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٖۚ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلۡأٓيَٰتِۗ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٞ} (58)

قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاة العشاء ثلاث عورات لكم ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن طوافون عليكم بعضكم على بعض كذلك يبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا كما استأذن الذين من قبلهم كذلك يبين الله لكم آياته والله عليم حكيم والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحا فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة وأن يستعففن خير لهن والله سميع عليم } .

اعلم أن في الآية مسائل :

المسألة الأولى : قال القاضي : قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم } وإن كان ظاهره الرجال فالمراد به الرجال والنساء لأن التذكير يغلب على التأنيث فإذا لم يميز فيدخل تحت قوله : { يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم } الكل ويبين ذلك قوله تعالى : { الذين ملكت أيمانكم } لأن ذلك يقال في الرجال والنساء والأولى عندي أن الحكم ثابت في النساء بقياس جلي ، وذلك لأن النساء في باب حفظ العورة أشد حالا من الرجال ، فهذا الحكم لما ثبت في الرجال فثبوته في النساء بطريق الأولى ، كما أنا نثبت حرمة الضرب بالقياس الجلي على حرمة التأفيف .

المسألة الثانية : ظاهر قوله : { الذين ملكت أيمانكم } يدخل فيه البالغون والصغار ، وحكي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن المراد الصغار ، واحتجوا بأن الكبير من المماليك ليس له أن ينظر من المالك إلا إلى ما يجوز للحر أن ينظر إليه ، قال ابن المسيب : لا يغرنكم قوله : { وما ملكت أيمانكم } لا ينبغي للمرأة أن ينظر عبدها إلى قرطها وشعرها وشيء من محاسنها ، وقال الآخرون : بل البالغ من المماليك له أن ينظر إلى شعر مالكته وما شاكله ، وظاهر الآية يدل على اختصاص عبيد المؤمنين والأطفال من الأحرار بإباحة ما حظره الله تعالى من قبل على جماعة المؤمنين بقوله : { لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم } فإنه أباح لهم إلا في الأوقات الثلاثة وجوز دخولهم مع من لم يبلغ بغير إذن ودخول الموالي عليهم بقوله تعالى : { ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن طوافون عليكم } أي يطوف بعضكم على بعض فيما عدا الأوقات الثلاثة ، وأكد ذلك بأن أوجب على من بلغ الحلم الجري على سنة من قبلهم من البالغين في الاستئذان في سائر الأوقات وألحقهم بمن دخل تحت قوله : { لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها } .

المسألة الثالثة : قوله : { ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم } إن أريد به العبيد والإماء إذا كانوا بالغين فغير ممتنع أن يكون أمرا لهم في الحقيقة ، وإن أريد الذين لم يبلغوا الحلم لم يجز أن يكون أمرا لهم ، ويجب أن يكون أمرا لنا بأن نأمرهم بذلك ونبعثهم عليه كما أمرنا بأمر الصبي ، وقد عقل الصلاة أن يفعلها لا على وجه التكليف لهم ، لكنه تكليف لنا لما فيه من المصلحة لنا ولهم بعد البلوغ ، ولا يبعد أن يكون لفظ الأمر وإن كان في الظاهر متوجها عليهم إلا أنه يكون في الحقيقة متوجها على المولى كقولك للرجل : ليخفك أهلك وولدك ، فظاهر الأمر لهم وحقيقة الأمر له بفعل ما يخافون عنده .

المسألة الرابعة : قال ابن عباس رضي الله عنهما إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث غلاما من الأنصار إلى عمر ليدعوه فوجده نائما في البيت فدفع الباب وسلم فلم يستيقظ عمر فعاد ورد الباب وقام من خلفه وحركه فلم يستيقظ فقال الغلام اللهم أيقظه لي ودفع الباب ثم ناداه فاستيقظ وجلس ودخل الغلام فانكشف من عمر شيء وعرف عمر أن الغلام رأى ذلك منه فقال وددت أن الله نهى أبناءنا ونساءنا وخدمنا أن يدخلوا علينا في هذه الساعات إلا بإذن ثم انطلق معه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فوجده قد نزل عليه { يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم } فحمد الله تعالى عمر عند ذلك فقال عليه السلام «وما ذاك يا عمر ؟ » فأخبره بما فعل الغلام فتعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم من صنعه وتعرف اسمه ومدحه ، وقال : «إن الله يحب الحليم الحي العفيف المتعفف ، ويبغض البذيء الجريء السائل الملحف » فهذه الآية إحدى الآيات المنزلة بسبب عمر . وقال بعضهم : نزلت في أسماء بنت أبي مرثد قالت إنا لندخل على الرجل والمرأة ولعلهما يكونان في لحاف واحد ، وقيل دخل عليها غلام لها كبير في وقت كرهت دخوله فيه فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت إن خدمنا وغلماننا يدخلون علينا في حال نكرهها فنزلت الآية .

المسألة الخامسة : قال ابن عمر ومجاهد قوله : { ليستأذنكم } عنى به الذكور دون الإناث لأن قوله : { الذين ملكت أيمانكم } صيغة الذكور لا صيغة الإناث ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما هي في الرجال والنساء يستأذنون على كل حال بالليل والنهار ، والصحيح أنه يجب إثبات هذا الحكم في النساء ، لأن الإنسان كما يكره اطلاع الذكور على أحواله فقد يكره أيضا اطلاع النساء عليها ولكن الحكم يثبت في النساء بالقياس لا بظاهر اللفظ على ما قدمناه .

المسألة السادسة : من العلماء من قال الأمر في قوله : { ليستأذنكم } على الندب والاستحباب ومنهم من قال إنه على الإيجاب وهذا أولى ، لما ثبت أن ظاهر الأمر للوجوب .

أما قوله تعالى : { والذين لم يبلغوا الحلم منكم } ففيه مسائل :

المسألة الأولى : قرأ ابن عمر { الحلم } بالسكون .

المسألة الثانية : اتفق الفقهاء على أن الاحتلام بلوغ . واختلفوا إذا بلغ خمس عشرة سنة ولم يحتلم فقال أبو حنيفة رحمه الله لا يكون الغلام بالغا حتى يبلغ ثماني عشرة سنة ويستكملها وفي الجارية سبع عشرة سنة ، وقال الشافعي وأبو يوسف ومحمد رحمهم الله في الغلام والجارية خمس عشرة سنة قال أبو بكر الرازي قوله تعالى : { والذين لم يبلغوا الحلم منكم } يدل على بطلان قول من جعل حد البلوغ خمس عشرة إذا لم يحتلم لأن الله تعالى لم يفرق بين من بلغها وبين من قصر عنها بعد أن لا يكون قد بلغ الحلم ، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم من جهات كثيرة : «رفع القلم عن ثلاث عن النائم حتى يستيقظ ، وعن المجنون حتى يفيق ، وعن الصبي حتى يحتلم » ولم يفرق بين من بلغ خمس عشرة سنة وبين من لم يبلغها ، فإن قيل فهذا الكلام يبطل التقدير أيضا بثماني عشرة سنة أجاب بأنا قد علمنا بأن العادة في البلوغ خمس عشرة سنة وكل ما كان مبنيا على طريق العادات فقد تجوز الزيادة فيه والنقصان منه ، وقد وجدنا من بلغ في اثنتي عشرة سنة ، وقد بينا أن الزيادة على المعتاد جائزة كالنقصان منه فجعل أبو حنيفة رحمه الله الزيادة كالنقصان ، وهي ثلاث سنين ، وقد حكي عن أبي حنيفة رحمه الله تسع عشرة سنة للغلام ، وهو محمول على استكمال ثماني عشرة سنة والدخول في التاسعة عشرة . حجة الشافعي رحمه الله ما روى ابن عمر أنه عرض على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وله أربع عشرة سنة فلم يجزه وعرض عليه يوم الخندق وله خمس عشرة سنة فأجازه اعترض أبو بكر الرازي عليه فقال هذا الخبر مضطرب لأن أحدا كان في سنة ثلاث والخندق في سنة خمس فكيف يكون بينهما سنة ؟ ثم مع ذلك فإن الإجازة في القتال لا تعلق لها بالبلوغ لأنه قد يرد البالغ لضعفه ويؤذن غير البالغ لقوته ولطاقته حمل السلاح ويدل على ذلك أنه عليه الصلاة والسلام ما سأله عن الاحتلام والسن .

البحث الثاني : اختلفوا في الإنبات هل يكون بلوغا ، فأبو حنيفة وأصحابه ما جعلوه بلوغا والشافعي رحمه الله جعله بلوغا ، قال أبو بكر الرازي رحمه الله ظاهر قوله : { والذين لم يبلغوا الحلم منكم } ينفي أن يكون الإنبات بلوغا إذا لم يحتلم كما نفي كون خمس عشرة سنة بلوغا وكذلك قوله عليه السلام «وعن الصبي حتى يحتلم » حجة الشافعي رحمه الله تعالى ما روى عطية القرظي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل من أنبت من قريظة واستحياء من لم ينبت قال فنظروا إلي فلم أكن قد أنبت فاستبقاني قال أبو بكر الرازي هذا الحديث لا يجوز إثبات الشرع به وبمثله لوجوه . أحدها : أن عطية هذا مجهول لا يعرف إلا من هذا الخبر لاسيما مع اعتراضه على الآية ، والخبر في نفي البلوغ إلا بالاحتلام . وثانيها : أنه مختلف الألفاظ ففي بعضها أنه أمر بقتل من جرت عليه الموسى ، وفي بعضها من اخضر عذاره ومعلوم أنه لا يبلغ هذه الحال إلا وقد تقدم بلوغه ولا يكون قد جرت عليه الموسى إلا وهو رجل كبير ، فجعل الإنبات وجرى الموسى عليه كناية عن بلوغ القدر الذي ذكرنا من السن وهي ثماني عشرة سنة فأكثر . وثالثها : أن الإنبات يدل على القوة البدنية فالأمر بالقتل لذاك لا للبلوغ ، قال الشافعي رحمه الله هذه الاحتمالات مردودة بما روي أن عثمان بن عفان رضي الله عنه سئل عن غلام فقال هل اخضر عذاره ؟ وهدا يدل على أن ذلك كان كالأمر المتفق عليه فيما بين الصحابة .

البحث الثالث : ويروى عن قوم من السلف أنهم اعتبروا في البلوغ أن يبلغ الإنسان في طوله خمسة أشبار ، روي عن علي عليه السلام أنه قال إذا بلغ الغلام خمسة أشبار فقد وقعت عليه الحدود ويقتص له ويقتص منه ، وعن ابن سيرين عن أنس قال أتى أبو بكر بغلام قد سرق فأمر به فشبر فنقص أنملة فخلى عنه ، وهذا المذهب أخذ به الفرزدق في قوله :

ما زال مذ عقدت يداه إزاره *** وسما فأدرك خمسة الأشبار

وأكثر الفقهاء لا يقولون بهذا المذهب ، لأن الإنسان قد يكون دون البلوغ ويكون طويلا ، وفوق البلوغ ويكون قصيرا فلا عبرة به .

المسألة الثالثة : قال أبو بكر الرازي دلت هذه الآية على أن من لم يبلغ ، وقد عقل يؤمر بفعل الشرائع وينهى عن ارتكاب القبائح فإن الله أمرهم بالاستئذان في هذه الأوقات ، وقال عليه السلام : «مروهم بالصلاة وهم أبناء سبع واضربوهم عليها وهم أبناء عشر » وعن ابن عمر رضي الله عنه قال نعلم الصبي الصلاة إذا عرف يمينه من شماله ، وعن زين العابدين أنه كان يأمر الصبيان أن يصلوا الظهر والعصر جميعا والمغرب والعشاء جميعا ، فقيل له يصلون الصلاة لغير وقتها فقال هذا خير من أن يتناهوا عنها ، وعن ابن مسعود رضي الله عنه إذا بلغ الصبي عشر سنين كتبت له الحسنات ولا تكتب عليه السيئات حتى يحتلم ، ثم قال أبو بكر الرازي إنما يؤمر بذلك على وجه التعليم وليعتاده ويتمرن عليه فيكون أسهل عليه بعد البلوغ وأقل نفورا منه ، وكذلك يجنب شرب الخمر ولحم الخنزير ، وينهى عن سائر المحظورات لأنه لو لم يمنع منه في الصغر لصعب عليه الامتناع بعد الكبر ، وقال الله تعالى : { قوا أنفسكم وأهليكم نارا } قيل في التفسير أدبوهم وعلموهم .

المسألة الرابعة : قال الأخفش : يقال في الحلم حلم الرجل بفتح اللام ، يحلم حلما بضم اللام ، ومن الحلم حلم بضم اللام ، يحلم حلما بكسر اللام .

أما قوله تعالى : { ثلاث مرات من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاة العشاء ثلاث عورات لكم } ففيه مسائل :

المسألة الأولى : قوله : { ثلاث مرات } يعني ثلاث أوقات ، لأنه تعالى فسرهن بالأوقات ، وإنما قيل ثلاث مرات للأوقات ، لأنه أراد مرة في كل وقت من هذه الأوقات ، لأنه يكفيهم أن يستأذنوا في كل واحد من هذه الأوقات مرة واحدة ، ثم بين الأوقات فقال : { من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاة العشاء } ، يعني الغالب في هذه الأوقات الثلاثة أن يكون الإنسان متجردا عن الثياب مكشوف العورة .

المسألة الثانية : قوله : { ثلاث عورات } قرأ أهل الكوفة : { ثلاث } بالنصب على البدل من قوله : { ثلاث مرات } وكأنه قال في أوقات ثلاث عورات لكم ، فلما حذف المضاف أعرب المضاف إليه بإعرابه وقراءة الباقين بالرفع ، أي هي ثلاث عورات فارتفع لأنه خبر مبتدأ محذوف ، قال القفال فكأن المعنى ثلاث انكشافات والمراد وقت الانكشاف .

المسألة الثالثة : العورة الخلل ومنه أعور الفارس وأعور المكان والأعور المختل العين ، فسمى الله تعالى كل واحدة من تلك الأحوال عورة ، لأن الناس يختل حفظهم وتسترهم فيها .

المسألة الرابعة : الآية دالة على أن الواجب اعتبار العلل في الأحكام إذا أمكن لأنه تعالى نبه على العلة في هذه الأوقات الثلاثة من وجهين : أحدهما : بقوله تعالى : { ثلاث عورات لكم } والثاني : بالتنبيه على الفرق بين هذه الأوقات الثلاثة وبين ما عداها بأنه ليس ذاك إلا لعلة التكشف في هذه الأوقات الثلاثة ، وأنه لا يؤمن وقوع التكشف فيها . وليس كذلك ما عدا هذه الأوقات .

المسألة الخامسة : من الناس من قال إن قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلمو على أهلها } فهذا يدل على أن الاستئذان واجب في كل حال ، وصار ذلك منسوخا بهذه الآية في غير هذه الأحوال الثلاثة ، ومن الناس من قال الآية الأولى أريد بها المكلف لأنه خطاب لمن آمن ، وما ذكره الله تعالى في هذه الآية فهو فيمن ليس بمكلف فقيل فيه إن في بعض الأحوال لا يدخل إلا بإذن ، وفي بعضها بغير إذن . فلا وجه لحمل ذلك على النسخ ، لأن ما تناولته الآية الأولى من المخاطبين لم تتناوله الآية الثانية أصلا ، فإن قيل بتقدير أن يكون قوله تعالى : { الذين ملكت أيمانكم } يدخل فيه من قد بلغ فالنسخ لازم ، قلنا لا يجب ذلك أيضا ، لأن قوله : { يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم } لا يدخل إلا من يملك البيوت لحق هذه الإضافة ، وإذا صح ذلك لم يدخل تحت العبيد والإماء ، فلا يجب النسخ أيضا على هذا القول ، فأما إن حمل الكلام على صغار المماليك فالقول فيه أبين .

المسألة السادسة : قال أبو حنيفة رحمه الله : لم يصر أحد من العلماء إلى أن الأمر بالاستئذان منسوخ . وروى عطاء عن ابن عباس أنه قال : ثلاث آيات من كتاب الله تركهن الناس ولا أرى أحدا يعمل بهن ، قال عطاء حفظت اثنتين ونسيت واحدة ، وقرأ هذه الآية وقوله : { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى } وذكر سعيد بن جبير أن الآية الثالثة قوله : { وإذا حضر القسمة أولوا القربى } الآية .

أما قوله تعالى : { ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن طوافون عليكم بعضكم على بعض } ففيه سؤالات :

السؤال الأول : أتقولون في قوله : { ليس عليكم ولا عليهم جناح } أنه يقتضي الإباحة على كل حال ؟ الجواب : قد بينا أن ذلك هو في الصغار خاصة ، فمباح لهم الدخول للخدمة بغير الإذن في غير الأوقات الثلاثة ، ومباح لنا تمكينهم من ذلك والدخول عليهم أيضا .

السؤال الثاني : فهل يقتضي ذلك إباحة كشف العورة لهم ؟ الجواب : لا وإنما أباح الله تعالى ذلك من حيث كانت العادة أن لا تكشف العورة في غير تلك الأوقات ، فمتى كشفت المرأة عورتها مع ظن دخول الخدم إليها فذلك يحرم عليها ، فإن كان الخادم ممن يتناوله التكليف فيحرم عليه الدخول أيضا إذا ظن أن هناك كشف عورة ، فإن قيل أليس من الناس من جوز للبالغ من المماليك أن ينظر إلى شعر مولاته ؟ قلنا من جوز ذلك أخرج الشعر من أن يكون عورة لحق الملك ، كما يخرج من أن يكون عورة لحق الرحم ، إذ العورة تنقسم ففيه ما يكون عورة على كل حال . وفيه ما يختلف حاله بالإضافة فيكون عورة مع الأجنبي غير عورة غيره على ما تقدم ذكره .

السؤال الثالث : أتقولون هذه الإباحة مقصورة على الخدم دون غيرهم ؟ الجواب : نعم وفي قوله : { ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن } دلالة على أن هذا الحكم يختص بالصغار دون البالغين على ما تقدم ذكره ، وقد نص تعالى على ذلك من بعد فقال : { وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا كما استأذن الذين من قبلهم } .