فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لِيَسۡتَـٔۡذِنكُمُ ٱلَّذِينَ مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُكُمۡ وَٱلَّذِينَ لَمۡ يَبۡلُغُواْ ٱلۡحُلُمَ مِنكُمۡ ثَلَٰثَ مَرَّـٰتٖۚ مِّن قَبۡلِ صَلَوٰةِ ٱلۡفَجۡرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ ٱلظَّهِيرَةِ وَمِنۢ بَعۡدِ صَلَوٰةِ ٱلۡعِشَآءِۚ ثَلَٰثُ عَوۡرَٰتٖ لَّكُمۡۚ لَيۡسَ عَلَيۡكُمۡ وَلَا عَلَيۡهِمۡ جُنَاحُۢ بَعۡدَهُنَّۚ طَوَّـٰفُونَ عَلَيۡكُم بَعۡضُكُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٖۚ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلۡأٓيَٰتِۗ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٞ} (58)

لما فرغ سبحانه من ذكر ما ذكره من دلائل التوحيد رجع إلى ما كان فيه من الاستئذان ، فذكره هاهنا على وجه أخصّ ، فقال : { ياأيها الذين ءَامَنُواْ لِيَسْتَأْذِنكُمُ الذين مَلَكَتْ أيمانكم } والخطاب للمؤمنين وتدخل المؤمنات فيه تغليباً كما في غيره من الخطابات . قال العلماء : هذه الآية خاصة ببعض الأوقات . واختلفوا في المراد بقوله : { لِيَسْتَأْذِنكُمُ } على أقوال : الأوّل أنها منسوخة ، قاله سعيد بن المسيب . وقال سعيد بن جبير : إن الأمر فيها للندب لا للوجوب . وقيل كان ذلك واجباً حيث كانوا لا أبواب لهم ، ولو عاد الحال لعاد الوجوب ، حكاه المهدوي عن ابن عباس . وقيل : إن الأمر هاهنا للوجوب ، وإن الآية محكمة غير منسوخة ، وأن حكمها ثابت على الرجال والنساء . قال القرطبي : وهو قول أكثر أهل العلم . وقال أبو عبد الرحمن السلمي : إنها خاصة بالنساء . وقال ابن عمر : هي خاصة بالرجال دون النساء . والمراد بقوله : { مَلَكَتْ أيمانكم } : العبيد ، والإماء ، والمراد ب { الذين لم يبلغوا الحلم } : الصبيان { منكم } أي من الأحرار ، ومعنى { ثَلاَثَ مَرَّاتٍ } ثلاثة أوقات في اليوم والليلة ، وعبر بالمرات عن الأوقات لأن أصل وجوب الاستئذان هو بسبب مقارنة تلك الأوقات لمرور المستأذنين بالمخاطبين لا نفس الأوقات ، وانتصاب { ثلاث مرات } على الظرفية الزمانية : أي ثلاثة أوقات ، ثم فسر تلك الأوقات بقوله : { مّن قَبْلِ صلاة الفجر } إلخ ، أو منصوب على المصدرية : أي ثلاث استئذانات ؛ ورجح هذا أبو حيان ، فقال : والظاهر من قوله : { ثَلاَثَ مَرَّاتٍ } ثلاث استئذانات ، لأنك إذا قلت : ضربتك ثلاث مرات لا يفهم منه إلاّ ثلاث ضربات . ويردّ : بأن الظاهر هنا متروك للقرينة المذكورة ، وهو التفسير بالثلاثة الأوقات . قرأ الحسن وأبو عمرو في رواية { الحلم } بسكون اللام ، وقرأ الباقون بضمها . قال الأخفش : الحلم من حلم الرجل بفتح اللام ، ومن الحلم حلم بضم اللام يحلم بكسر اللام .

ثم فسر سبحانه الثلاث المرات ، فقال : { مّن قَبْلِ صلاة الفجر } ، وذلك لأنه وقت القيام عن المضاجع ، وطرح ثياب النوم ، ولبس ثياب اليقظة ، وربما يبيت عرياناً ، أو على حال لا يحبّ أن يراه غيره فيها ، ومحله النصب على أنه بدل من ثلاث ، ويجوز أن يكون في محل رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي : هي من قبل ، وقوله : { وَحِينَ تَضَعُونَ ثيابكم مّنَ الظهيرة } معطوف على محل { مّن قَبْلِ صلاة الفجر } و«من » في { مّنَ الظهيرة } للبيان ، أو بمعنى في ، أو بمعنى اللام . والمعنى : حين تضعون ثيابكم التي تلبسونها في النهار من شدة حرّ الظهيرة وذلك عند انتصاف النهار ، فإنهم قد يتجرّدون عن الثياب لأجل القيلولة . ثم ذكر سبحانه الوقت الثالث فقال : { وَمِن بَعْدِ صلاة العشاء } وذلك لأنه وقت التجرد عن الثياب ، والخلوة بالأهل ، ثم أجمل سبحانه هذه الأوقات بعد التفصيل ، فقال : { ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ } قرأ الجمهور : { ثلاثُ عورات } برفع ثلاث وقرأ حمزة وأبو بكر عن عاصم بالنصب على البدل من ثلاث مرات .

قال ابن عطية : إنما يصح البدل بتقدير أوقات ثلاث عورات ، فحذف المضاف ، وأقيم المضاف إليه مقامه ، ويحتمل أنه جعل نفس ثلاث مرات نفس ثلاث عورات مبالغة ؛ ويجوز أن يكون ثلاث عورات بدلاً من الأوقات المذكورة : أي من قبل صلاة الفجر إلخ ؛ ويجوز أن تكون منصوبة بإضمار فعل : أي أعني ونحوه ، وأما الرفع فعلى أنه خبر مبتدأ محذوف : أي هنّ ثلاث . قال أبو حاتم : النصب ضعيف مردود . وقال الفراء : الرفع أحبّ إليّ ، قال : وإنما اخترت الرفع لأن المعنى : هذه الخصال ثلاث عورات . وقال الكسائي : إن ثلاث عورات مرتفعة بالابتداء ، والخبر ما بعدها . قال والعورات الساعات التي تكون فيها العورة . قال الزجاج : المعنى : ليستأذنكم أوقات ثلاث عورات ، فحذف المضاف ، وأقيم المضاف إليه مقامه ، وعورات جمع عورة ، والعورة في الأصل : الخلل ، ثم غلب في الخلل الواقع فيما يهمّ حفظه ويتعين ستره أي : هي ثلاث أوقات يختلّ فيها الستر . وقرأ الأعمش : " عورات " بفتح الواو ، وهي لغة هذيل وتميم ، فإنهم يفتحون عين فعلات سواء كان واواً أو ياء ، ومنه :

أخو بيضات رايح متأوّب *** رفيق بمسح المنكبين سبوح

وقوله :

أبو بيضات رايح أو مغتدي *** عجلان ذا زاد وغير مزوّد

و { لكم } متعلق بمحذوف ، هو صفة لثلاث عورات : أي كائنة لكم ، والجملة مستأنفة مسوقة لبيان علة وجوب الاستئذان { لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلاَ عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ } أي ليس على المماليك ، ولا على الصبيان جناح : أي إثم في الدخول بغير استئذان لعدم ما يوجبه من مخالفة الأمر ، والإطلاع على العورات . ومعنى { بعدهنّ } : بعد كل واحدة من هذه العورات الثلاث ، وهي الأوقات المتخللة بين كلّ اثنين منها ، وهذه الجملة مستأنفة مقرّرة للأمر بالاستئذان في تلك الأحوال خاصة ، ويجوز أن تكون في محل رفع صفة لثلاث عورات على قراءة الرفع فيها . قال أبو البقاء : { بَعْدَهُنَّ } أي بعد استئذانهم فيهنّ ، ثم حذف حرف الجرّ والمجرور فبقي بعد استئذانهم ، ثم حذف المصدر ، وهو الاستئذان ، والضمير المتصل به . وردّ : بأنه لا حاجة إلى هذا التقدير الذي ذكره ، بل المعنى : ليس عليكم جناح ، ولا عليهم ، أي : العبيد والإماء والصبيان جناح في عدم الاستئذان بعد هذه الأوقات المذكورة ، وارتفاع { طَوافُونَ } على أنه خبر مبتدأ محذوف : أي هم طوّافون عليكم ، والجملة مستأنفة مبينة للعذر المرخص في ترك الاستئذان . قال الفراء : هذا كقولك في الكلام هم خدمكم ، وطوّافون عليكم ، وأجاز أيضاً نصب طوّافين لأنه نكرة ، والمضمر في { عَلَيْكُمْ } معرفة ، ولا يجيز البصريون أن تكون حالاً من المضمرين اللذين في عليكم ، وفي بعضكم لاختلاف العاملين .

ومعنى { طوّافون عليكم } أي يطوفون عليكم ، ومنه الحديث في الهرّة : «إنما هي من الطوّافين عليكم . أو الطوّافات » أي هم خدمكم فلا بأس أن يدخلوا عليكم في غير هذه الأوقات بغير إذن ، ومعنى { بَعْضَكُمْ على بَعْضٍ } بعضكم يطوف أو طائف على بعض ، وهذه الجملة بدل مما قبلها أو مؤكدة لها . والمعنى أن كلا منكم يطوف على صاحبه العبيد على الموالي والموالي على العبيد ، ومنه قول الشاعر :

ولما قرعنا النبع بالنبع بعضه *** ببعض أبت عيدانه أن تكسرا

وقرأ ابن أبي عبلة { طوّافين } بالنصب على الحال كما تقدّم عن الفراء ، وإنما أباح سبحانه الدخول في غير تلك الأوقات الثلاثة بغير استئذان ، لأنها كانت العادة أنهم لا يكشفون عوراتهم في غيرها ، والإشارة بقوله : { كذلك يُبيّنُ الله لَكُمُ الآيات } إلى مصدر الفعل الذي بعده ، كما في سائر المواضع في الكتاب العزيز : أي مثل ذلك التبيين يبين الله لكم الآيات الدالة على ما شرعه لكم من الأحكام { والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ } كثير العلم بالمعلومات وكثير الحكمة في أفعاله .

/خ61