فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لِيَسۡتَـٔۡذِنكُمُ ٱلَّذِينَ مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُكُمۡ وَٱلَّذِينَ لَمۡ يَبۡلُغُواْ ٱلۡحُلُمَ مِنكُمۡ ثَلَٰثَ مَرَّـٰتٖۚ مِّن قَبۡلِ صَلَوٰةِ ٱلۡفَجۡرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ ٱلظَّهِيرَةِ وَمِنۢ بَعۡدِ صَلَوٰةِ ٱلۡعِشَآءِۚ ثَلَٰثُ عَوۡرَٰتٖ لَّكُمۡۚ لَيۡسَ عَلَيۡكُمۡ وَلَا عَلَيۡهِمۡ جُنَاحُۢ بَعۡدَهُنَّۚ طَوَّـٰفُونَ عَلَيۡكُم بَعۡضُكُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٖۚ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلۡأٓيَٰتِۗ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٞ} (58)

ولما فرغ سبحانه من ذكر ما ذكره من دلائل التوحيد رجع إلى ما كان فيه من الاستئذان فذكره ههنا على وجه أخص فقال .

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } الخطاب للمؤمنين ويدخل المؤمنات فيه تغليبا كما في غيره من الخطابات ، قال العلماء : هذه الآية خاصة ببعض الأوقات واختلفوا في المراد بقوله : { لِيَسْتَأْذِنكُمُ } على أقوال أنها منسوخة قاله سعيد بن المسيب وقال سعيد بن جبير : إن الأمر فيها للندب لا للوجوب ، وقيل كان ذلك واجبا حيث كانوا لا أبواب لهم ، ولو عاد الحال لعاد الوجوب حكاه المهدوي عن ابن عباس ، وقيل إن الأمر ههنا للوجوب وإن الآية حكمة غير منسوخة وإن حكمها ثابت على الرجال والنساء ، قال القرطبي : وهو قول أكثر العلماء وقال السلمي : إنها خاصة بالنساء وقال ابن عمر : هي خاصة بالرجال دون النساء ، والمراد بقوله :

{ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } العبيد والإماء وعن مقاتل بن حيان قال : بلغنا أن رجلا من الأنصار وامرأته أسماء بنت مرشدة صنعا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم طعاما فقالت أسماء : يا رسول الله ما أقبح هذا إنه ليدخل على المرأة وزوجها وهما في ثوب واحد غلامهما بغير إذن فأنزل الله في ذلك هذه الآية يعني بها العبيد والإماء ، وعن السدي قال : كان أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبهم أن يواقعوا نساءهم في هذه الساعات ليغتسلوا ثم يخرجوا إلى الصلاة فأمرهم الله أن يأمروا المملوكين والغلمان أن لا يدخلوا عليهم في تلك الساعات إلا بإذن ، فلا يرد كيف أمرهم الله بالاستئذان ؟ مع أنهم غير مكلفين ولو كان المقصود أمرهم بالذات لما كان لتخصيص النداء والخطاب بالمؤمنين وجه .

{ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنكُمْ } أي الصبيان والمراد الأحرار قرئ الحلم بسكون اللام وبضمها قال الأخفش : الحلم من حلم الرجل بفتح اللام ومن الحلم حلم بضم اللام يحلم بكسرها ، واتفقوا على أن الاحتلام بلوغ واختلفوا فيما إذا بلغ خمس عشرة سنة ولم يحتلم فقال أبو حنيفة : لا يكون بالغا حتى يبلغ ثماني عشرة سنة ويستكملها ، والجارية سبع عشرة سنة وقال الشافعي وأبو يوسف ومحمد وأحمد في الغلام والجارية بخمس عشرة سنة يصير مكلفا وتجري عليه الأحكام وإن لم يحتلم .

{ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ } أي ثلاثة أوقات في اليوم والليلة ، وعبر عن الأوقات بالمرات لأن الأصل وجوب الاستئذان هو بسبب مقارنة تلك الأوقات للمرور المستأذنين بالمخاطبين لا نفس الأوقات ، وانتصاب ثلاث مرات على المصدرية أي ثلاث استئذانات ، ورجح هذا أبو حيان وقال : لأنك إذا قلت ضربتك ثلاث مرات لا يفهم منه إلا ثلاث ضربات ، أو منصوب على الظرفية أي ثلاث أوقات ثم فسر تلك الأوقات بقوله .

{ مِن قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ } وذلك لأنه وقت القيام عن المضاجع وطرح ثياب النوم ولبس ثياب اليقظة وربما يبيت عريانا أو على حالة لا يجب أن يراه غيره فيها { وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم } التي تلبسونها في النهار { مِّنَ } شدة حر { الظَّهِيرَةِ } وذلك عند انتصاف النهار فإنهم قد يتجردون عن الثياب لأجل القيلولة { من } للبيان أو بمعنى في أو بمعنى اللام ثم ذكر سبحانه الوقت الثالث فقال :

{ وَمِن بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاء } وذلك لأنه وقت التجرد عن ثياب اليقظة والخلوة بالأهل والالتحاف بثياب النوم ، ثم أجمل سبحانه هذه الأوقات بعد التفصيل بقوله { ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ } أي أوقات ثلاث عورات وقيل جعل نفس ثلاث مرات نفس ثلاث عورات مبالغة وقيل هو ثلاث .

وقال أبو حاتم : النصب ضعيف مردود ، وقال الفراء : الرفع أحب إلي ، قال الكسائي : العورات الساعات التي تكون فيها العورة ، قال الزجاج : المعنى ليستأذنكم أوقات ثلاث عورات ، وعورات جمع عورة وهي في الأصل الخلل . ثم غلب في الخلل الواقع فيما يهم حفظه ويتعين ستره أي هي ثلاث أوقات ، يختل فيها الستر ، وقرئ عورات بفتح الواو وهي لغة هذيل وتميم . فإنهم يفتحون عين فعلات سواء كان واوا أو ياء . والجملة مستأنفة ، مسوقة لبيان علة وجوب الاستئذان .

عن عبد الله بن سويد قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العورات الثلاث فقال : " إذا أنا وضعت ثيابي بعد الظهيرة لم يلج عليّ أحد من الخدم من الذين لم يبلغوا الحلم ، ولا أحد لم يبلغ الحلم من الأحرار إلا بإذنه ، وإذا وضعت ثيابي بعد صلاة العشاء ومن قبل صلاة الصبح " أخرجه ابن مردويه .

وعن ابن عباس قال : إنه لا يؤمن بها أكثر الناس يعني آية الإذن . وإني لآمر جاريتي هذه ، الجارية قصيرة قائمة على رأسه أن تستأذن علي ، وعنه قال : ترك الناس ثلاث آيات لم يعملوا بهن هذه الآية والآية التي في سورة النساء { وإذا حضر القسمة } الآية ، والآية التي في الحجرات { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } .

وعنه قال : إذا خلا الرجل بأهله بعد العشاء فلا يدخل عليه صبي ولا خادم إلا بإذنه حتى يصلي الغداة ، وإذا خلا بأهله عند الظهر فمثل ذلك . ورخص لهم في الدخول فيما بين ذلك بغير إذن وهو قوله { لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ } فأما من بلغ الحلم فإنه لا يدخل على الرجل وأهله إلا بإذن على كل حال . وهو قوله : { وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا كما استأذن الذين من قبلهم } .

وعنه أن رجلا سأله عن الاستئذان في الثلاث العورات ، التي أمر الله بها في القرآن فقال : إن الله ستير يحب الستر ، وكان الناس ليس لهم ستور على أبوابهم ولا حجاب في بيوتهم ، فربما فجأ الرجل خادمه ، أو ولده أو يتيم في حجره ، وهو على أهله ، فأمرهم الله أن يستأذنوا في تلك العورات التي سمي الله ، ثم جاء الله بعد بالستور ، فبسط عليهم في الرزق ، فاتخذوا الستور واتخذوا الحجال ، فرأى الناس أن ذلك قد كفاهم من الاستئذان الذي أمروا به .

وعن ابن عمر في الآية قال : هي على الذكور دون الإناث . ولا وجه هذا التخصيص ، فالإطلاع على العورات في هذه الأوقات كما يكرهه الإنسان من الذكور يكرهه من الإناث . وعن السلمي قال : هي في النساء خاصة ، والرجال يستأذنون على كل حال بالليل والنهار .

وعن ابن مسعود قال : عليكم إذن على أمهاتكم ، وعنه قال : يستأذن الرجل على أبيه وأمه وأخته ، أخرجه البخاري في الأدب وعن جابر نحوه ، وسئل الشعبي عن هذه الآية أمنسوخة هي ؟ قال : لا والله . قال السائل : إن الناس لا يعلمون بها ، قال : والله المستعان . وقال سعيد بن جبير : إن ناسا يقولون أن هذه الآية نسخت والله ما نسخت ولكنها مما تهاون به الناس وقال سعيد بن المسيب : إنها منسوخة والأول أولى .

{ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ } أي ليس على المماليك ولا على الصبيان إثم في الدخول بغير استئذان ، لعدم ما يوجبه من مخالفة الأمر ، والاطلاع على العورات ، بعد كل واحدة من هذه العورات الثلاث ، وهي الأوقات المتخللة بين كل اثنين منها ، والجملة مستأنفة مقررة للأمر بالاستئذان في تلك الأحوال خاصة . وقال أبو البقاء { بعدهن } أي بعد استئذانهم فيهن ، ورد بأنه لا حاجة إلى هذا التقدير ، الذي ذكره ، بل المعنى ليس عليكم جناح ولا عليهم أي العبيد والإماء والصبيان في عدم الاستئذان بعد هذه الأوقات المذكورة .

{ طَوَّافُونَ } أي هم طوافون { عَلَيْكُم } والجملة مستأنفة مبينة للعذر رخص في ترك الاستئذان والمعنى يطوفون عليكم ، ومنه الحديث في الهرة إنما هي من الطوافين عليكم أو الطوافات . أي هم خدمكم فلا بأس أن يدخلوا عليكم في غير هذه الأوقات بغير إذن { بَعْضُكُمْ } يطوف . أو طائف { عَلَى بَعْضٍ } والجملة تدل مما قبلها ، أو مؤكدة لها ، والمعنى أن كلا منكم يطوف على صاحبه ، العبيد على الموالي والموالي على العبيد ، وإنما أباح سبحانه الدخول في غير تلك الأوقات الثلاثة بغير استئذان لأنها كانت العادة أنهم لا يكشفون عوراتهم في غيرها .

{ كَذَلِكَ } أي مثل ذلك التبيين { يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ } الدالة على ما شرعه لكم من الأحكام { وَاللَّهُ عَلِيمٌ } أي كثير العلم بالمعلومات { حَكِيمٌ } كثير الحكمة في أفعاله .