مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{إِذَا رَأَتۡهُم مِّن مَّكَانِۭ بَعِيدٖ سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظٗا وَزَفِيرٗا} (12)

ثم إنه سبحانه وتعالى وصف السعير بصفات إحداها قوله : { إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا } وفيه مسائل :

المسألة الأولى : السعير مذكر ولكن جاء ههنا مؤنثا لأنه تعالى قال : { رأتهم } وقال : { سمعوا لها } وإنما جاء مؤنثا على معنى النار .

المسألة الثانية : مذهب أصحابنا أن البنية ليست شرطا في الحياة ، فالنار على ما هي عليه ، يجوز أن يخلق الله الحياة والعقل والنطق فيها ، وعند المعتزلة ذلك غير جائز ، وهؤلاء المعتزلة ليس لهم في هذا الباب حجة إلا استقراء العادات ، ولو صدق ذلك لوجب التكذيب بانخراق العادات في حق الرسل ، فهؤلاء قولهم متناقض ، بل إنكار العادات لا يليق إلا بأصول الفلاسفة ، فعلى هذا قال أصحابنا قول الله تعالى في صفة النار : { إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا } يجب إجراؤه على الظاهر ، لأنه لا امتناع في أن تكون النار حية رائية مغتاظة على الكفار ، أما المعتزلة فقد احتاجوا إلى التأويل وذكروا فيه وجوها . أحدها : قالوا معنى رأتهم ظهرت لهم من قولهم دورهم تتراءى وتتناظر ، وقال عليه السلام : «إن المؤمن والكافر لا تتراءى ناراهما » أي لا تتقابلان لما يجب على المؤمن من مجانبة الكافر والمشرك ، ويقال دور فلان متناظرة ، أي متقابلة . وثانيها : أن النار لشدة اضطرامها وغليانها صارت ترى الكفار وتطلبهم وتتغيظ عليهم . وثالثها : قال الجبائي : إن الله تعالى ذكر النار وأراد الخزنة الموكلة بتعذيب أهل النار ، لأن الرؤية تصح منهم ولا تصح من النار ، فهو كقوله : { واسأل القرية } أراد أهلها .

المسألة الثالثة : لقائل أن يقول التغيظ عبارة عن شدة الغضب وذلك لا يكون مسموعا ، فكيف قال الله تعالى : { سمعوا لها تغيظا وزفيرا } ؟ والجواب عنه من وجوه . أحدها : أن التغيظ وإن لم يسمع فإنه قد يسمع ما يدل عليه من الصوت وهو كقوله : رأيت غضب الأمير على فلان إذا رأى ما يدل عليه ، وكذلك يقال في المحبة فكذا ههنا ، والمعنى سمعوا لها صوتا يشبه صوت المتغيظ وهو قول الزجاج . وثانيها : المعنى علموا لها تغيظا وسمعوا لها زفيرا وهذا قول قطرب ، وهو كقول الشاعر : متقلدا سيفا ورمحا . وثالثها : المراد تغيظ الخزنة .

المسألة الرابعة : قال عبيد بن عمير : «إن جهنم لتزفر زفرة لا يبقى أحد إلا وترعد فرائصه حتى إن إبراهيم عليه السلام يجثو على ركبتيه ويقول نفسي نفسي » .