مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوۡلَا نُزِّلَ عَلَيۡهِ ٱلۡقُرۡءَانُ جُمۡلَةٗ وَٰحِدَةٗۚ كَذَٰلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِۦ فُؤَادَكَۖ وَرَتَّلۡنَٰهُ تَرۡتِيلٗا} (32)

قوله تعالى : { وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم أولئك شر مكانا وأضل سبيلا ولقد آتينا موسى الكتاب وجعلنا معه أخاه هارون وزيرا فقلنا اذهبا إلى القوم الذين كذبوا بآياتنا فدمرناهم تدميرا } .

اعلم أن هذا هو الشبهة الخامسة لمنكري نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، وأن أهل مكة قالوا تزعم أنك رسول من عند الله أفلا تأتينا بالقرآن جملة واحدة كما أنزلت التوراة جملة على موسى والإنجيل على عيسى والزبور على داود ، وعن ابن جريج بين أوله وآخره اثنتان أو ثلاث وعشرون سنة وأجاب الله بقوله : { كذلك لنثبت به فؤادك } وبيان هذا الجواب من وجوه . أحدها : أنه عليه السلام لم يكن من أهل القراءة والكتابة فلو نزل عليه ذلك جملة واحدة كان لا يضبطه ولجاز عليه الغلط والسهو ، وإنما نزلت التوراة جملة لأنها مكتوبة يقرؤها موسى . وثانيها : أن من كان الكتاب عنده ، فربما اعتمد على الكتاب وتساهل في الحفظ فالله تعالى ما أعطاه الكتاب دفعة واحدة بل كان ينزل عليه وظيفة ليكون حفظه له أكمل فيكون أبعد له عن المساهلة وقلة التحصيل . وثالثها : أنه تعالى لو أنزل الكتاب جملة واحدة على الخلق لنزلت الشرائع بأسرها دفعة واحدة على الخلق فكان يثقل عليهم ذلك ، أما لما نزل مفرقا منجما لا جرم نزلت التكاليف قليلا قليلا فكان تحملها أسهل . ورابعها : أنه إذا شاهد جبريل حالا بعد حال يقوى قلبه بمشاهدته فكان أقوى على أداء ما حمل ، وعلى الصبر على عوارض النبوة وعلى احتماله أذية قومه وعلى الجهاد . وخامسها : أنه لما تم شرط الإعجاز فيه مع كونه منجما ثبت كونه معجزا ، فإنه لو كان ذلك في مقدور البشر لوجب أن يأتوا بمثله منجما مفرقا . وسادسها : كان القرآن ينزل بحسب أسئلتهم والوقائع الواقعة لهم فكانوا يزدادون بصيرة ، لأن بسبب ذلك كان ينضم إلى الفصاحة الإخبار عن الغيوب . وسابعها : أن القرآن لما نزل منجما مفرقا وهو عليه السلام كان يتحداهم من أول الأمر فكأنه تحداهم بكل واحد من نجوم القرآن فلما عجزوا عنه كان عجزهم عن معارضة الكل أولى فبهذا الطريق ثبت في فؤاده أن القوم عاجزون عن المعارضة لا محالة . وثامنها : أن السفارة بين الله تعالى وبين أنبيائه وتبليغ كلامه إلى الخلق منصب عظيم فيحتمل أن يقال إنه تعالى لو أنزل القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم دفعة واحدة لبطل ذلك المنصب على جبريل عليه السلام فلما أنزله مفرقا منجما بقي ذلك المنصب العالي عليه فلأجل ذلك جعله الله سبحانه وتعالى مفرقا منجما .

أما قوله : { كذلك } ففيه وجهان : الأول : أنه من تمام كلام المشركين أي جملة واحدة كذلك أي كالتوراة والإنجيل ، وعلى هذا لا يحتاج إلى إضمار في الآية وهو أن يقول : أنزلناه مفرقا لتثبت به فؤادك . الثاني : أنه كلام الله تعالى ذكره جوابا لهم أي ( كذلك أنزلناه مفرقا ) فإن قيل ذلك في { كذلك } يجب أن يكون إشارة إلى شيء تقدمه والذي تقدم فهو إنزاله جملة فكيف فسر به كذلك أنزلناه مفرقا ؟ قلنا لأن قولهم { لولا نزل عليه جملة واحدة } معناه لم نزل مفرقا فذلك إشارة إليه .

أما قوله تعالى : { ورتلناه ترتيلا } فمعنى الترتيل في الكلام أن يأتي بعضه على أثر بعض على تؤدة وتمهل وأصل الترتيل في الأسنان وهو تفلجها يقال ثغر رتل وهو ضد المتراص .