مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{۞وَقَالَ ٱلَّذِينَ لَا يَرۡجُونَ لِقَآءَنَا لَوۡلَآ أُنزِلَ عَلَيۡنَا ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةُ أَوۡ نَرَىٰ رَبَّنَاۗ لَقَدِ ٱسۡتَكۡبَرُواْ فِيٓ أَنفُسِهِمۡ وَعَتَوۡ عُتُوّٗا كَبِيرٗا} (21)

قوله تعالى : { وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين ويقولون حجرا محجورا وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا أصحاب الجنة يومئذ خير مستقر وأحسن مقيلا } .

اعلم أن قوله تعالى : { وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا } هو الشبهة الرابعة لمنكري نبوة محمد صلى الله عليه وسلم . وحاصلها : لم لم ينزل الله الملائكة حتى يشهدوا أن محمدا محق في دعواه { أو نرى ربنا } حتى يخبرنا بأنه أرسله إلينا ؟ وتقرير هذه الشبهة أن من أراد تحصيل شيء ، وكان له إلى تحصيله طريقان ، أحدهما يفضي إليه قطعا والآخر قد يفضي وقد لا يفضي ، فالحكيم يجب عليه في حكمته أن يختار في تحصيل ذلك المقصود الطريق الأقوى والأحسن ، ولا شك أن إنزال الملائكة ليشهدوا بصدق محمد صلى الله عليه وسلم أكثر إفضاء إلى المقصود ، فلو أراد الله تعالى تصديق محمد صلى الله عليه وسلم لفعل ذلك وحيث لم يفعل ذلك علمنا أنه ما أراد تصديقه . هذا حاصل الشبهة ، ثم ههنا مسائل :

المسألة الأولى : قال الفراء قوله تعالى : { وقال الذين لا يرجون لقاءنا } معناه لا يخافون لقاءنا ووضع الرجاء في موضع الخوف لغة تهامية ، إذا كان معه جحد ، ومثله قوله تعالى : { ما لكم لا ترجون لله وقارا } أي لا تخافون له عظمة ، وقال القاضي لا وجه لذلك ، لأن الكلام متى أمكن حمله على الحقيقة لم يجز حمله على المجاز ، ومعلوم أن من حال عباد الأصنام أنهم كما لا يخافون العقاب لتكذيبهم بالمعاد ، فكذلك لا يرجون لقاءنا ووعدنا على الطاعة من الجنة والثواب ، ومعلوم أن من لا يرجو ذلك لا يخاف العقاب أيضا ، فالخوف تابع لهذا الرجاء .

المسألة الثانية : المجسمة تمسكوا بقوله تعالى : { لقاءنا } أنه جسم وقالوا اللقاء هو الوصول يقال هذا الجسم لقي ذلك أي وصل إليه واتصل به ، وقال تعالى : { فالتقى الماء على أمر قد قدر } فدلت الآية على أنه سبحانه جسم والجواب على طريقين ، الأول : طريق بعض أصحابنا قال المراد من اللقاء هو الرؤية ، وذلك لأن الرائي يصل برؤيته إلى حقيقة المرئي فسمى اللقاء أحد أنواع الرؤية والنوع الآخر الاتصال والمماسة ، فدلت الآية من هذا الوجه على جواز الرؤية . الطريق الثاني : وهو كلام المعتزلة ، قال القاضي تفسير اللقاء برؤية البصر جهل باللغة ، فيقال في الدعاء لقاك الله الخير وقد يقول القائل لم ألق الأمير وإن رآه من بعد أو حجب عنه ، ويقال في الضرير لقى الأمير إذا أذن له ولم يحجب وقد يلقاه في الليلة الظلماء ، ولا يراه بل المراد من اللقاء ههنا هو المصير إلى حكمه حيث لا حكم لغيره في { يوم لا تملك نفس لنفس شيئا } لا أنه رؤية البصر ، واعلم أن هذا الكلام ضعيف لأنا لا نفسر اللقاء برؤية البصر بل نفسره بمعنى مشترك بين رؤية البصر ، وبين الاتصال والمماسة وهو الوصول إلى الشيء ، وقد بينا أن الرائي يصل برؤيته إلى المرئي واللفظ الموضوع لمعنى مشترك بين معان كثيرة ، ينطلق على كل واحد من تلك المعاني فيصح قوله لقاك الخير ، ويصح قول الأعمى لقيت الأمير ، ويصح قول البصير لقيته بمعنى رأيته وما لقيته بمعنى ما وصلت إليه ، وإذا ثبت هذا فنقول قوله : { وقال الذين لا يرجون لقاءنا } مذكور في معرض الذم لهم ، فوجب أن يكون رجاء اللقاء حاصلا ، ومسمى اللقاء مشترك بين الوصول المكاني ، وبين الوصول بالرؤية ، وقد تعذر الأول فتعين الثاني ، وقوله المراد من اللقاء الوصول إلى حكمه صرف للفظ عن ظاهره بغير دليل ، فثبت دلالة الآية على صحة الرؤية بل على وجوبها ، بل على أن إنكارها ليس إلا من دين الكفار .

المسألة الثالثة : قوله : { لولا أنزل } معناه هلا أنزل ، قال الكلبي ومقاتل : نزلت هذه الآية في أبي جهل والوليد وأصحابهما الذين كانوا منكرين للنبوة والبعث .

أما قوله تعالى : { لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا } فاعلم أن هذا هو الجواب عن تلك الشبهة ، وفيه مسائل :

المسألة الأولى : في تقرير كونه جوابا ، وذلك من وجوه . أحدها : أن القرآن لما ظهر كونه معجزا فقد ثبتت دلالة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، فبعد ذلك يكون اقتراح أمثال هذه الآيات لا يكون إلا محض الاستكبار والتعنت . وثانيها : أن نزول الملائكة لو حصل لكان أيضا من جملة المعجزات ولا يدل على الصدق لخصوص كونه بنزول الملك ، بل لعموم كونه معجزا ، فيكون قبول ذلك المعجز ورد ذلك المعجز الآخر ترجيحا لأحد المثلين على الآخر من غير مزيد فائدة ومرجح ، وهو محض الاستكبار والتعنت . وثالثها : أنهم بتقدير أن يروا الرب ويسألوه عن صدق محمد صلى الله عليه وسلم وهو سبحانه يقول نعم هو رسولي ، فذلك لا يزيد في التصديق على إظهار المعجز على يد محمد صلى الله عليه وسلم ، لأنا بينا أن المعجز يقوم مقام التصديق بالقول إذ لا فرق وقد ادعى النبوة بين أن يقول اللهم إن كنت صادقا فأحيي هذا الميت فيحييه الله تعالى والعادة لم تجر بمثله وبين أن يقول له صدقت ، وإذا كان التصديق الحاصل بالقول أو الحاصل بالمعجز تعيين في كونه تصديقا للمدعى كان تعيين أحدهما محض الاستكبار والتعنت . ورابعها : وهو أنا نعتقد أن الله سبحانه وتعالى يفعل بحسب المصالح على ما يقوله المعتزلة ، أن نقول إن الله تعالى يفعل بحسب المشيئة على ما يقوله أصحابنا ، فإن كان الأول لم يجز لهم أن يعينوا المعجز إذ ربما كان إظهار ذلك المعجز مشتملا على مفسدة لا يعرفها إلا الله تعالى ، وكان التعيين استكبارا وعتوا من حيث إنه لما ظنه مصلحة قطع بكونه مصلحة ، فمن قال ذلك فقد اعتقد في نفسه أنه عالم بكل المعلومات ، وذلك استكبار عظيم ، وإن كان الثاني وهو قول أصحابنا فليس للعبد أن يقترح على ربه فإنه سبحانه فعال لما يريد فكان الاقتراح استكبارا وعتوا وخروجا عن حد العبودية إلى مقام المنازعة والمعارضة . وخامسها : وهو أن المقصود من بعثة الأنبياء الإحسان إلى الخلق فالملك الكبير إذا أحسن إلى بعض الضعفاء رحمة عليه فأخذ ذلك الضعيف إلى اللجاج والنزاع ، ويقول لا أريد هذا بل أريد ذاك ، حسن أن يقال إن هذا المكدي قد استكبر في نفسه وعتا عتوا شديدا من حيث لا يعرف قدر نفسه ومنتهى درجته فكذا ههنا . وسادسها : يمكن أن يكون المراد أن الله تعالى قال لو علمت أنهم ما ذكروا هذا السؤال لأجل الاستكبار والعتو الشديد لأعطيتهم مقترحهم ، ولكني علمت أنهم ذكروا هذا الاقتراح لأجل الاستكبار والتعنت فلو أعطيتهم مقترحهم لما انتفعوا به فلا جرم لا أعطيهم ذلك ، وهذا التأويل يعرف من اللفظ . وسابعها : لعلهم سمعوا من أهل الكتاب أن الله تعالى لا يرى في الدنيا ، وأنه تعالى لا ينزل الملائكة في الدنيا على عوام الخلق ، ثم إنهم علقوا إيمانهم على ذلك على سبيل التعنت أو على سبيل الاستهزاء .

المسألة الثانية : قالت المعتزلة : الآية دلت على أن الله تعالى لا تجوز رؤيته لأن رؤيته لو كانت جائزة لما كان سؤالها عتوا واستكبارا ، قالوا وقوله : { لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا } ليس إلا لأجل سؤال الرؤية . حتى لو أنهم اقتصروا على نزول الملائكة لما خوطبوا بذلك ، والدليل عليه أن الله تعالى ذكر أمر الرؤية في آية أخرى على حدة وذكر الاستعظام وهو قوله : { لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة } وذكر نزول الملائكة على حدة في آية أخرى فلم يذكر الاستعظام وهو قولهم : { لولا أنزل علينا الملائكة } وهل نرى الملائكة فثبت بهذا أن الاستكبار والعتو في هذه الآية إنما حصل لأجل سؤال الرؤية .

واعلم أن الكلام على ذلك قد تقدم في سورة البقرة ، والذي نريده ههنا أنا بينا أن قوله { وقال الذين لا يرجون لقاءنا } يدل على الرؤية ، وأما الاستكبار والعتو ، فلا يمكن أن يدل ذلك على أن الرؤية مستحيلة لأن من طلب شيئا محالا ، لا يقال إنه عتا واستكبر ، ألا ترى أنهم لما قالوا : { اجعل لنا إلها كما لهم آلهة } لم يثبت لهم بطلب هذا المحال عتوا واستكبارا ، بل قال : { إنكم قوم تجهلون } بل العتو والاستكبار لا يثبت إلا إذا طلب الإنسان ما لا يليق به ممن فوقه أو كان لائقا به ، ولكنه يطلبه على سبيل التعنت . وبالجملة فقد ذكرنا وجوها كثيرة في تحقيق معنى الاستكبار والعتو سواء كانت الرؤية ممتنعة أو ممكنة ، ومما يدل عليه أن موسى لما سأل الرؤية ما وصفه الله تعالى بالاستكبار والعتو ، لأنه عليه السلام طلب الرؤية شوقا ، وهؤلاء طلبوها امتحانا وتعنتا ، لا جرم وصفهم بذلك فثبت فساد ما قاله المعتزلة .

المسألة الثالثة : إنما قال { في أنفسهم } لأنهم أضمروا الاستكبار في قلوبهم واعتقدوه كما قال : { إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه } وقوله : { وعتوا عتوا كبيرا } أي تجاوزوا الحد في الظلم يقال عتا فلان وقد وصف العتو بالكبر فبالغ في إفراطه ، يعني أنهم لم يجترئوا على هذا القول العظيم إلا لأنهم بلغوا غاية الاستكبار وأقصى العتو .