مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ لِإِخۡوَٰنِهِمۡ إِذَا ضَرَبُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ أَوۡ كَانُواْ غُزّٗى لَّوۡ كَانُواْ عِندَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ لِيَجۡعَلَ ٱللَّهُ ذَٰلِكَ حَسۡرَةٗ فِي قُلُوبِهِمۡۗ وَٱللَّهُ يُحۡيِۦ وَيُمِيتُۗ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرٞ} (156)

قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا الأرض أو كانوا غزا لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم والله يحيي ويميت والله بما تعملون بصير ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون ولئن متم أو قتلتم لإلى الله تحشرون } .

اعلم أن المنافقين كانوا يعيرون المؤمنين في الجهاد مع الكفار بقولهم : لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ، ثم إنه لما ظهر عن بعض المؤمنين فتور وفشل في الجهاد حتى وقع يوم أحد ما وقع وعفا الله بفضله عنهم ، ذكر في هذه الآية ما يدل على النهي عن أن يقول أحد من المؤمنين مثل مقالتهم فقال : يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا لمن يريد الخروج إلى الجهاد : لو لم تخرجوا لما متم وما قتلتم فإن الله هو المحيي والمميت ، فمن قدر له البقاء لم يقتل في الجهاد ، ومن قدر له الموت لم يبق وإن لم يجاهد ، وهو المراد من قوله : { والله يحيى ويميت } وأيضا الذي قتل في الجهاد ، لو أنه ما خرج إلى الجهاد لكان يموت لا محالة ، فإذا كان لا بد من الموت فلأن يقتل في الجهاد حتى يستوجب الثواب العظيم ، كان ذلك خيرا له من أن يموت من غير فائدة ، وهو المراد من قوله : { ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون } فهذا هو المقصود من الكلام ، وفي الآية مسائل :

المسألة الأولى : اختلفوا في المراد بقوله : { كالذين كفروا } فقال بعضهم : هو على إطلاقه ، فيدخل فيه كل كافر يقول مثل هذا القول سواء كان منافقا أو لم يكن ، وقال آخرون : إنه مخصوص بالمنافقين لأن هذه الآيات من أولها إلى آخرها مختصة بشرح أحوالهم ، وقال آخرون : هذا مختص بعبد الله بن أبي بن سلول ، ومعتب بن قشير ، وسائر أصحابه ، وعلى هذين القولين فالآية تدل على أن الإيمان ليس عبارة عن الإقرار باللسان ، كما تقول الكرامية إذ لو كان كذلك لكان المنافق مؤمنا ، ولو كان مؤمنا لما سماه الله كافرا .

المسألة الثانية : قال صاحب «الكشاف » : قوله : { وقالوا لإخوانهم } أي لأجل إخراجهم كقوله : { وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيرا ما سبقونا إليه } وأقول : تقرير هذا الوجه أنهم لما قالوا لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ، فهذا يدل على أن أولئك الإخوان كانوا ميتين ومقتولين عند هذا القول ، فوجب أن يكون المراد من قوله : { وقالوا لإخوانهم } هو أنهم قالوا ذلك لأجل إخوانهم ، ولا يكون المراد هو أنهم ذكروا هذا القول مع إخوانهم .

المسألة الثالثة : قوله : { إخوانهم } يحتمل أن يكون المراد منه الأخوة في النسب وإن كانوا مسلمين ، كقوله تعالى : { وإلى عاد أخاهم هودا } { وإلى ثمود أخاهم صالحا } فإن الأخوة في هذه الآيات أخوة النسب لا أخوة الدين ، فلعل أولئك المقتولين من المسلمين كانوا من أقارب المنافقين ، فالمنافقون ذكروا هذا الكلام ، ويحتمل أن يكون المراد من هذه الأخوة المشاكلة في الدين ، واتفق إلى أن صار بعض المنافقين مقتولا في بعض الغزوات فالذين بقوا من المنافقين قالوا ذلك .

المسألة الرابعة : المنافقون كانوا يظنون أن الخارج منهم لسفر بعيد ، وهو المراد بقوله : { إذا ضربوا في الأرض } والخارج إلى الغزو ، وهو المراد بقوله : { أو كانوا غزى } إذا نالهم موت أو قتل فذلك إنما نالهم بسبب السفر والغزو ، وجعلوا ذلك سببا لتنفير الناس عن الجهاد ، وذلك لأن في الطباع محبة الحياة وكراهية الموت والقتل ، فإذا قيل للمرء : إن تحرزت من السفر والجهاد فأنت سليم طيب العيش ، وإن تقحمت أحدهما وصلت إلى الموت أو القتل ، فالغالب أنه ينفر طبعه عن ذلك ويرغب في ملازمة البيت ، وكان ذلك من مكايد المنافقين في تنفير المؤمنين عن الجهاد .

فان قيل : فلماذا ذكر بعض الضرب في الأرض الغزو وهو داخل فيه ؟

قلنا : لأن الضرب في الأرض يراد به الأبعاد في السفر ، لا ما يقرب منه ، وفي الغزو لا فرق بين بعيده وقريبه ، إذ الخارج من المدينة إلى جبل أحد لا يوصف بأنه ضارب في الأرض مع قرب المسافة وإن كان غازيا ، فهذا فائدة إفراد الغزو عن الضرب في الأرض .

المسألة الخامسة : في الآية إشكال وهو أن قوله : { وقالوا لإخوانهم } يدل على الماضي ، وقوله : { إذا ضربوا } يدل على المستقبل فكيف الجمع بينهما ؟ بل لو قال : وقالوا لإخوانهم إذ ضربوا في الأرض ، أي حين ضربوا لم يكن فيه إشكال .

والجواب عنه من وجوه : الأول : أن قوله : { قالوا } تقديره : يقولون فكأنه قيل : لا تكونوا كالذين كفروا ويقولون لإخوانهم كذا وكذا ، وإنما عبر عن المستقبل بلفظ الماضي لفائدتين : أحدهما : أن الشيء الذي يكون لازم الحصول في المستقبل فقد يعبر عنه بأنه حدث أو هو حادث قال تعالى : { أتى أمر الله } وقال : { إنك ميت } فهنا لو وقع التعبير عنه بلفظ المستقبل لم يكن فيه مبالغة أما لما وقع التعبير عنه بلفظ الماضي ، دل ذلك على أن جدهم واجتهادهم في تقرير الشبهة قد بلغ الغاية ، وصار بسبب ذلك الجد هذا المستقبل كالكائن الواقع .

الفائدة الثانية : أنه تعالى لما عبر عن المستقبل بلفظ الماضي دل ذلك على أنه ليس المقصود الإخبار عن صدور هذا الكلام ، بل المقصود الإخبار عن جدهم واجتهادهم في تقرير هذه الشبهة ، فهذا هو الجواب المعتمد عندي ، والله أعلم .

الوجه الثاني في الجواب : أن الكلام خرج على سبيل حكاية الحال الماضية ، والمعنى أن إخوانهم إذا ضربوا في الأرض ، فالكافرون يقولون لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ، فمن أخبر عنهم بعد ذلك لا بد وإن يقول : قالوا ، فهذا هو المراد بقولنا : خرج هذا الكلام على سبيل حكاية الحال الماضية .

الوجه الثالث : قال قطرب : كلمة «إذ » وإذا ، يجوز إقامة كل واحدة منهما مقام الأخرى ، وأقول : هذا الذي قاله قطرب كلام حسن ، وذلك لأنا إذا جوزنا إثبات اللغة بشعر مجهول منقول عن قائل مجهول ، فلأن يجوز إثباتها بالقرآن العظيم ، كان ذلك أولى ، أقصى ما في الباب أن يقال «إذ » حقيقة في المستقبل ، ولكن لم لا يجوز استعماله في الماضي على سبيل المجاز لما بينه وبين كلمة «إذ » من المشابهة الشديدة ؟ وكثيرا أرى النحويين يتحيرون في تقرير الألفاظ الواردة في القرآن ، فإذا استشهدوا في تقريره ببيت مجهول فرحوا به ، وأنا شديد التعجب منهم ، فإنهم إذا جعلوا ورود ذلك البيت المجهول على وفقه دليلا على صحته ، فلأن يجعلوا ورود القرآن به دليلا على صحته كان أولى .

المسألة السادسة : { غزى } جمع غاز ، كالقول والركع والسجد ، جمع قائل وراكع وساجد ، ومثله من الناقص «عفا » ويجوز أيضا : غزاة ، مثل قضاة ورماة في جمع القاضي والرامي ، ومعنى الغزو في كلام العرب قصد العدو ، والمغزي المقصد .

المسألة السابعة : قال الواحدي : في الآية محذوف يدل عليه الكلام ، والتقدير : إذا ضربوا في الأرض فماتوا أو كانوا غزاة فقتلوا ، لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ، فقوله : { ما ماتوا وما قتلوا } يدل على موتهم وقتلهم .

ثم قال تعالى : { ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم } وفيه وجهان : الأول : أن التقدير أنهم قالوا ذلك الكلام ليجعل الله ذلك الكلام حسرة في قلوبهم ، مثل ما يقال : ربيته ليؤذيني ونصرته ليقهرني ومثله قوله تعالى : { فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا } إذا عرفت هذا فنقول : ذكروا في بيان أن ذلك القول كيف استعقب حصول الحسرة في قلوبهم وجوها : الأول : أن أقارب ذلك المقتول إذا سمعوا هذا الكلام ازدادت الحسرة في قلوبهم ، لأن أحدهم يعتقد أنه لو بالغ في منعه عن ذلك السفر وعن ذلك الغزو لبقي ، فذلك الشخص إنما مات أو قتل بسبب أن هذا الإنسان قصر في منعه ، فيعتقد السامع لهذا الكلام إنه هو الذي تسبب إلى موت ذلك الشخص العزيز عليه أو قتله ، ومتى أعتقد في نفسه ذلك فلا شك أنه تزداد حسرته وتلهفه ، أما المسلم المعتقد في أن الحياة والموت لا يكون إلا بتقدير الله وقضائه ، لم يحصل ألبتة في قلبه شيء من هذا النوع من الحسرة ، فثبت أن تلك الشبهة التي ذكرها المنافقون لا تفيدهم إلا زيادة الحسرة .

الوجه الثاني : إن المنافقين إذا ألقوا هذه الشبهة إلى إخوانهم تثبطوا عن الغزو والجهاد وتخلفوا عنه ، فإذا اشتغل المسلمون بالجهاد والغزو ، ووصلوا بسببه إلى الغنائم العظيمة والاستيلاء على الأعداء . والفوز بالأماني ، بقي ذلك المتخلف عند ذلك في الخيبة والحسرة .

الوجه الثالث : أن هذه الحسرة إنما تحصل يوم القيامة في قلوب المنافقين إذا رأوا تخصيص الله المجاهدين بمزيد الكرامات وإعلاء الدرجات ، وتخصيص هؤلاء المنافقين بمزيد الخزي واللعن والعقاب .

الوجه الرابع : أن المنافقين إذا أوردوا هذه الشبهة على ضعفة المسلمين ووجدوا منهم قبولا لها ، فرحوا بذلك ، من حيث أنه راج كيدهم ومكرهم على أولئك الضعفة ، فالله تعالى يقول : إنه سيصير ذلك حسرة في قلوبهم إذا علموا أنهم كانوا على الباطل في تقرير هذه الشبهة .

الوجه الخامس : أن جدهم واجتهادهم في تكثير الشبهات وإلقاء الضلالات يعمي قلوبهم فيقعون عند ذلك في الحيرة والخيبة وضيق الصدر ، وهو المراد بالحسرة ، كقوله : { ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا } .

الوجه السادس : أنهم متى ألقوا هذه الشبهة على أقوياء المسلمين لم يلتفتوا إليهم فيضيع سعيهم ويبطل كيدهم فتحصل الحسرة في قلوبهم .

والقول الثاني في تفسير الآية : أن اللام في قوله : { ليجعل الله } متعلقة بما دل عليه النهي ، والتقدير : لا تكونوا مثلهم حتى يجعل الله انتفاء كونكم مثلهم حسرة في قلوبهم ، لأن مخالفتهم فيما يقولون ويعتقدون ومضادتهم مما يغيظهم .

ثم قال تعالى : { والله يحيى ويميت } وفيه وجهان : الأول : أن المقصود منه بيان الجواب عن هذه الشبهة ، وتقريره أن المحيي والمميت هو الله ، ولا تأثير لشيء آخر في الحياة والموت ، وأن علم الله لا يتغير ، وأن حكمه لا ينقلب ، وأن قضاءه لا يتبدل ، فكيف ينفع الجلوس في البيت من الموت ؟

فإن قيل : إن كان القول بأن قضاء الله لا يتبدل يمنع من كون الجد والاجتهاد مفيدا في الحذر عن القتل والموت ، فكذا القول بأن قضاء الله لا يتبدل وجب أن يمنع من كون العمل مفيدا في الاحتراز عن عقاب الآخرة ، وهذا يمنع من لزوم التكليف ، والمقصود من هذه الآيات تقرير الأمر بالجهاد والتكليف ، وإذا كان الجواب يفضي بالآخرة إلى سقوط التكليف كان هذا الكلام يفضي ثبوته إلى نفيه فيكون باطلا .

الجواب : أن حسن التكليف عندنا غير معلل بعلة ورعاية مصلحة ، بل عندنا أنه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد .

والوجه الثاني : في تأويل الآية : أنه ليس الغرض من هذا الكلام الجواب عن تلك الشبهة بل المقصود أنه تعالى لما نهى المؤمنين عن أن يقولوا مثل قول المنافقين ، قال : { والله يحيى ويميت } يريد : يحيي قلوب أوليائه وأهل طاعته بالنور والفرقان ، ويميت قلوب أعدائه من المنافقين .

ثم قال تعالى : { والله بما تعملون بصير } وفيه مسألتان :

المسألة الأولى : المقصود منه الترغيب والترهيب فيما تقدم ذكره من طريقة المؤمنين وطريقة المنافقين .

المسألة الثانية : قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي { يعملون } كناية عن الغائبين ، والتقدير { ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم والله يحيى ويميت والله بما تعملون بصير } والباقون بالتاء على الخطاب ليكون وفقا لما قبله في قوله : { لا تكونوا كالذين كفروا } ولما بعده في قوله : { ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم } .