وقوله تعالى : { إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور رحيم } .
واعلم أن المراد : أن القوم الذين تولوا يوم أحد عند التقاء الجمعين وفارقوا المكان وانهزموا قد عفا الله عنهم ، وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : اختلفت الأخبار فيمن ثبت ذلك اليوم وفيمن تولى ، فذكر محمد بن إسحاق أن ثلث الناس كانوا مجروحين ، وثلثهم انهزموا ، وثلثهم ثبتوا ، واختلفوا في المنهزمين ، فقيل : إن بعضهم ورد المدينة وأخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل ، وهو سعد بن عثمان ، ثم ورد بعده رجال دخلوا على نسائهم ، وجعل النساء يقلن : عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تفرون ! وكن يحثين التراب في وجوههم ويقلن : هاك المغزل أغزل به ، ومنهم قال : إن المسلمين لم يعدوا الجبل . قال القفال : والذي تدل عليه الأخبار في الجملة أن نفرا منهم تولوا وأبعدوا ، فمنهم من دخل المدينة ، ومنهم من ذهب إلى سائر الجوانب ، وأما الأكثرون فإنهم نزلوا عند الجبل واجتمعوا هناك . ومن المنهزمين عمر ، إلا أنه لم يكن في أوائل المنهزمين ولم يبعد ، بل ثبت على الجبل إلى أن صعد النبي صلى الله عليه وسلم ، ومنهم أيضا عثمان انهزم مع رجلين من الأنصار يقال لهما سعد وعقبة ، انهزموا حتى بلغوا موضعا بعيدا ثم رجعوا بعد ثلاثة أيام ، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم «لقد ذهبتم فيها عريضة » وقالت فاطمة لعلي : ما فعل عثمان ؟ فنقصه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «يا علي أعياني أزواج الأخوات أن يتحابوا » وأما الذين ثبتوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم فكانوا أربعة عشر رجلا ، سبعة من المهاجرين ، وسبعة من الأنصار ، فمن المهاجرين أبو بكر ، وعلي وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبيد الله وأبو عبيدة بن الجراح والزبير بن العوام ، ومن الأنصار الخباب بن المنذر وأبو دجانة وعاصم بن ثابت والحرث بن الصمة وسهل بن حنيف وأسيد بن حضير وسعد بن معاذ ، وذكر أن ثمانية من هؤلاء كانوا بايعوه يومئذ على الموت ثلاثة من المهاجرين : علي وطلحة والزبير ، وخمسة من الأنصار : أبو دجانة والحرث بن الصمة وخباب بن المنذر وعاصم بن ثابت وسهل ابن حنيف ، ثم لم يقتل منهم أحد . وروى ابن عيينة أنه أصيب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو من ثلاثين كلهم يجيء ويجثو بين يديه ويقول : وجهي لوجهك الفداء ، ونفسي لنفسك الفداء ، وعليك السلام غير مودع .
المسألة الثانية : قوله : { إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان } هذا خطاب للمؤمنين خاصة يعني الذين انهزموا يوم أحد { إنما استزلهم الشيطان } أي حملهم على الزلة . وأزل واستزل بمعنى واحد ، قال تعالى : { فأزلهما الشيطان عنها } وقال ابن قتيبة : استزلهم طلب زلتهم ، كما يقال استعجلته أي طلبت عجلته ، واستعملته طلبت عمله .
المسألة الثالثة : قال الكعبي : الآية تدل على أن المعاصي لا تنسب إلى الله ، فإنه تعالى نسبها في هذه الآية إلى الشيطان وهو كقوله تعالى عن موسى : { هذا من عمل الشيطان } وكقول يوسف . { من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي } وكقول صاحب موسى : { وما إنسانية إلا الشيطان } .
المسألة الرابعة : أنه تعالى لم يبين أن الشيطان في أي شيء استزلهم ، وذلك لأن مع العفو لا حاجة إلى تعيين المعصية ، لكن العلماء جوزوا أن يكون المراد بذلك تحولهم عن ذلك الموضع ، بأن يكون رغبتهم في الغنيمة ، وأن يكون فشلهم في الجهاد وعدو لهم عن الإخلاص ، وأي ذلك كان ، فقد صح أن الله تعالى عفا عنهم . وروي أن عثمان عوتب في هزيمته يوم أحد ، فقال إن ذلك وإن كان خطأ لكن الله عفا عنه ، وقرأ هذه الآية .
أما قوله تعالى : { ببعض ما كسبوا } ففيه وجهان : أحدهما : أن الباء للإلصاق كقولك : كتبت بالقلم ، وقطعت بالسكين ، والمعنى أنه كان قد صدرت عنهم جنايات ، فبواسطة تلك الجنايات قدر الشيطان على استزلالهم ، وعلى هذا التقدير ففيه وجوه ، الأول : قال الزجاج : أنهم لم يتولوا على جهة المعاندة ولا على جهة الفرار من الزحف رغبة منهم في الدنيا ، وإنما ذكرهم الشيطان ذنوبا كانت لهم ، فكرهوا لقاء الله إلا على حال يرضونها ، وإلا بعد الإخلاص في التوبة ، فهذا خاطر خطر ببالهم وكانوا مخطئين فيه . الثاني : أنهم لما أذنبوا بسبب مفارقة ذلك المكان أزلهم الشيطان بشؤم هذه المعصية وأوقعهم في الهزيمة ، لأن الذنب يجر إلى الذنب ، كما أن الطاعة تجر إلى الطاعة . ويكون لطفا فيها . الثالث : لما أذنبوا بسبب الفشل ومنازعة بعضهم مع بعض وقعوا في ذلك الذنب .
والوجه الثاني : أن يكون المعنى : استزلهم الشيطان في بعض ما كسبوا ، لا في كل ما كسبوا ، والمراد منه بيان أنهم ما كفروا وما تركوا دينهم ، بل هذه زلة وقعت لهم في بعض أعمالهم .
ثم قال تعالى : { ولقد عفا الله عنهم } .
واعلم أن هذه الآية دلت على أن تلك الزلة ما كانت بسبب الكفر ، فإن العفو عن الكفر لا يجوز لقوله تعالى : { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } ثم قالت المعتزلة : ذلك الذنب إن كان من الصغائر جاز العفو عنه من غير توبة ، وإن كان من الكبائر لم يجز إلا مع التوبة ، فههنا لا بد من تقدم التوبة منهم ، وإن كان ذلك غير مذكور في الآية ، قال القاضي : والأقرب أن ذلك الذنب كان من الصغائر ويدل عليه وجهان : الأول : أنه لا يكاد في الكبائر يقال إنها زلة ، إنما يقال ذلك في الصغائر . الثاني : أن القوم ظنوا أن الهزيمة لما وقعت على المشركين لم يبق إلى ثباتهم في ذلك المكان حاجة ، فلا جرم انتقلوا عنه وتحولوا لطلب الغنيمة ، ومثل هذا لا يبعد أن يكون من باب الصغائر لأن للاجتهاد في مثله مدخلا ، وأما على قول أصحابنا فالعفو عن الصغائر والكبائر جائز ، فلا حاجة إلى هذه التكلفات .
ثم قال تعالى : { أن الله غفور حليم } أي غفور لمن تاب وأناب ، حليم لا يعجل بالعقوبة . وقد احتج أصحابنا بهذه الآية على أن ذلك الذنب كان من الكبائر ، لأنه لو كان من الصغائر لوجب على قول المعتزلة أن يعفو عنه ، ولو كان العفو عنه واجبا لما حسن التمدح به ، لأن من يظلم إنسانا فإنه لا يحسن أن يتمدح بأنه عفا عنه وغفر له ، فلما ذكر هذا التمدح علمنا أن ذلك الذنب كان من الكبائر ، ولما عفا عنه علمنا أن العفو عن الكبائر واقع ، والله أعلم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.