مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ تَوَلَّوۡاْ مِنكُمۡ يَوۡمَ ٱلۡتَقَى ٱلۡجَمۡعَانِ إِنَّمَا ٱسۡتَزَلَّهُمُ ٱلشَّيۡطَٰنُ بِبَعۡضِ مَا كَسَبُواْۖ وَلَقَدۡ عَفَا ٱللَّهُ عَنۡهُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٞ} (155)

وقوله تعالى : { إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور رحيم } .

واعلم أن المراد : أن القوم الذين تولوا يوم أحد عند التقاء الجمعين وفارقوا المكان وانهزموا قد عفا الله عنهم ، وفي الآية مسائل :

المسألة الأولى : اختلفت الأخبار فيمن ثبت ذلك اليوم وفيمن تولى ، فذكر محمد بن إسحاق أن ثلث الناس كانوا مجروحين ، وثلثهم انهزموا ، وثلثهم ثبتوا ، واختلفوا في المنهزمين ، فقيل : إن بعضهم ورد المدينة وأخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل ، وهو سعد بن عثمان ، ثم ورد بعده رجال دخلوا على نسائهم ، وجعل النساء يقلن : عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تفرون ! وكن يحثين التراب في وجوههم ويقلن : هاك المغزل أغزل به ، ومنهم قال : إن المسلمين لم يعدوا الجبل . قال القفال : والذي تدل عليه الأخبار في الجملة أن نفرا منهم تولوا وأبعدوا ، فمنهم من دخل المدينة ، ومنهم من ذهب إلى سائر الجوانب ، وأما الأكثرون فإنهم نزلوا عند الجبل واجتمعوا هناك . ومن المنهزمين عمر ، إلا أنه لم يكن في أوائل المنهزمين ولم يبعد ، بل ثبت على الجبل إلى أن صعد النبي صلى الله عليه وسلم ، ومنهم أيضا عثمان انهزم مع رجلين من الأنصار يقال لهما سعد وعقبة ، انهزموا حتى بلغوا موضعا بعيدا ثم رجعوا بعد ثلاثة أيام ، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم «لقد ذهبتم فيها عريضة » وقالت فاطمة لعلي : ما فعل عثمان ؟ فنقصه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «يا علي أعياني أزواج الأخوات أن يتحابوا » وأما الذين ثبتوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم فكانوا أربعة عشر رجلا ، سبعة من المهاجرين ، وسبعة من الأنصار ، فمن المهاجرين أبو بكر ، وعلي وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبيد الله وأبو عبيدة بن الجراح والزبير بن العوام ، ومن الأنصار الخباب بن المنذر وأبو دجانة وعاصم بن ثابت والحرث بن الصمة وسهل بن حنيف وأسيد بن حضير وسعد بن معاذ ، وذكر أن ثمانية من هؤلاء كانوا بايعوه يومئذ على الموت ثلاثة من المهاجرين : علي وطلحة والزبير ، وخمسة من الأنصار : أبو دجانة والحرث بن الصمة وخباب بن المنذر وعاصم بن ثابت وسهل ابن حنيف ، ثم لم يقتل منهم أحد . وروى ابن عيينة أنه أصيب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو من ثلاثين كلهم يجيء ويجثو بين يديه ويقول : وجهي لوجهك الفداء ، ونفسي لنفسك الفداء ، وعليك السلام غير مودع .

المسألة الثانية : قوله : { إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان } هذا خطاب للمؤمنين خاصة يعني الذين انهزموا يوم أحد { إنما استزلهم الشيطان } أي حملهم على الزلة . وأزل واستزل بمعنى واحد ، قال تعالى : { فأزلهما الشيطان عنها } وقال ابن قتيبة : استزلهم طلب زلتهم ، كما يقال استعجلته أي طلبت عجلته ، واستعملته طلبت عمله .

المسألة الثالثة : قال الكعبي : الآية تدل على أن المعاصي لا تنسب إلى الله ، فإنه تعالى نسبها في هذه الآية إلى الشيطان وهو كقوله تعالى عن موسى : { هذا من عمل الشيطان } وكقول يوسف . { من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي } وكقول صاحب موسى : { وما إنسانية إلا الشيطان } .

المسألة الرابعة : أنه تعالى لم يبين أن الشيطان في أي شيء استزلهم ، وذلك لأن مع العفو لا حاجة إلى تعيين المعصية ، لكن العلماء جوزوا أن يكون المراد بذلك تحولهم عن ذلك الموضع ، بأن يكون رغبتهم في الغنيمة ، وأن يكون فشلهم في الجهاد وعدو لهم عن الإخلاص ، وأي ذلك كان ، فقد صح أن الله تعالى عفا عنهم . وروي أن عثمان عوتب في هزيمته يوم أحد ، فقال إن ذلك وإن كان خطأ لكن الله عفا عنه ، وقرأ هذه الآية .

أما قوله تعالى : { ببعض ما كسبوا } ففيه وجهان : أحدهما : أن الباء للإلصاق كقولك : كتبت بالقلم ، وقطعت بالسكين ، والمعنى أنه كان قد صدرت عنهم جنايات ، فبواسطة تلك الجنايات قدر الشيطان على استزلالهم ، وعلى هذا التقدير ففيه وجوه ، الأول : قال الزجاج : أنهم لم يتولوا على جهة المعاندة ولا على جهة الفرار من الزحف رغبة منهم في الدنيا ، وإنما ذكرهم الشيطان ذنوبا كانت لهم ، فكرهوا لقاء الله إلا على حال يرضونها ، وإلا بعد الإخلاص في التوبة ، فهذا خاطر خطر ببالهم وكانوا مخطئين فيه . الثاني : أنهم لما أذنبوا بسبب مفارقة ذلك المكان أزلهم الشيطان بشؤم هذه المعصية وأوقعهم في الهزيمة ، لأن الذنب يجر إلى الذنب ، كما أن الطاعة تجر إلى الطاعة . ويكون لطفا فيها . الثالث : لما أذنبوا بسبب الفشل ومنازعة بعضهم مع بعض وقعوا في ذلك الذنب .

والوجه الثاني : أن يكون المعنى : استزلهم الشيطان في بعض ما كسبوا ، لا في كل ما كسبوا ، والمراد منه بيان أنهم ما كفروا وما تركوا دينهم ، بل هذه زلة وقعت لهم في بعض أعمالهم .

ثم قال تعالى : { ولقد عفا الله عنهم } .

واعلم أن هذه الآية دلت على أن تلك الزلة ما كانت بسبب الكفر ، فإن العفو عن الكفر لا يجوز لقوله تعالى : { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } ثم قالت المعتزلة : ذلك الذنب إن كان من الصغائر جاز العفو عنه من غير توبة ، وإن كان من الكبائر لم يجز إلا مع التوبة ، فههنا لا بد من تقدم التوبة منهم ، وإن كان ذلك غير مذكور في الآية ، قال القاضي : والأقرب أن ذلك الذنب كان من الصغائر ويدل عليه وجهان : الأول : أنه لا يكاد في الكبائر يقال إنها زلة ، إنما يقال ذلك في الصغائر . الثاني : أن القوم ظنوا أن الهزيمة لما وقعت على المشركين لم يبق إلى ثباتهم في ذلك المكان حاجة ، فلا جرم انتقلوا عنه وتحولوا لطلب الغنيمة ، ومثل هذا لا يبعد أن يكون من باب الصغائر لأن للاجتهاد في مثله مدخلا ، وأما على قول أصحابنا فالعفو عن الصغائر والكبائر جائز ، فلا حاجة إلى هذه التكلفات .

ثم قال تعالى : { أن الله غفور حليم } أي غفور لمن تاب وأناب ، حليم لا يعجل بالعقوبة . وقد احتج أصحابنا بهذه الآية على أن ذلك الذنب كان من الكبائر ، لأنه لو كان من الصغائر لوجب على قول المعتزلة أن يعفو عنه ، ولو كان العفو عنه واجبا لما حسن التمدح به ، لأن من يظلم إنسانا فإنه لا يحسن أن يتمدح بأنه عفا عنه وغفر له ، فلما ذكر هذا التمدح علمنا أن ذلك الذنب كان من الكبائر ، ولما عفا عنه علمنا أن العفو عن الكبائر واقع ، والله أعلم .