مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{لِّلَّهِ مُلۡكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ يَخۡلُقُ مَا يَشَآءُۚ يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَٰثٗا وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ ٱلذُّكُورَ} (49)

ولما ذكر الله إذاقة الإنسان الرحمة وإصابته بضدها أتبع ذلك بقوله { لله ملك السموات والأرض } والمقصود منه أن لا يغتر الإنسان بما ملكه من المال والجاه بل إذا علم أن الكل ملك الله وملكه ، وأنه إنما حصل ذلك القدر تحت يده لأن الله أنعم عليه به فحينئذ يصير ذلك حاملا له على مزيد الطاعة والخدمة ، وأما إذا اعتقد أن تلك النعم ، إنما تحصل بسبب عقله وجده واجتهاده بقي مغرورا بنفسه معرضا عن طاعة الله تعالى ، ثم ذكر من أقسام تصرف الله في العالم أنه يخص البعض بالأولاد الإناث والبعض بالذكور والبعض بهما والبعض بأن يجعله محروما من الكل ، وهو المراد من قوله { ويجعل من يشاء عقيما } .

واعلم أن أهل الطبائع يقولون السبب في حدوث الولد صلاح حال النطفة والرحم وسبب الذكورة استيلاء الحرارة ، وسبب الأنوثة استيلاء البرودة ، وقد ذكرنا هذا الفصل بالاستقصاء التام في سورة النحل ، وأبطلناه بالدلائل اليقينية ، وظهر أن ذلك من الله تعالى لا أنه من الطبائع والأنجم والأفلاك وفي الآية سؤالات :

السؤال الأول : أنه قدم الإناث في الذكر على الذكور فقال : { يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور } ثم في الآية الثانية قدم الذكور على الإناث فقال : { أو يزوجهم ذكرانا وإناثا } فما السبب في هذا التقديم والتأخير ؟

السؤال الثاني : أنه ذكر الإناث على سبيل التنكير فقال : { يهب لمن يشاء إناثا } وذكر الذكور بلفظ التعريف فقال : { ويهب لمن يشاء الذكور } فما السبب في هذا الفرق ؟

السؤال الثالث : لم قال في إعطاء الإناث وحدهن ، وفي إعطاء الذكور وحدهم بلفظ الهبة فقال : { يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور } وقال في إعطاء الصنفين معا { أو يزوجهم ذكرانا وإناثا } .

السؤال الرابع : لما كان حصول الولد هبة من الله فيكفي في عدم حصوله أن لا يهب فأي حاجة في عدم حصوله إلى أن يقول { ويجعل من يشاء عقيما } ؟

السؤال الخامس : هل المراد من هذا الحكم جمع معينون أو المراد الحكم على الإنسان المطلق ؟

والجواب : عن السؤال الأول من وجوه ( الأول ) أن الكريم يسعى في أن يقع الختم على الخير والراحة والسرور والبهجة فإذا وهب الولد الأنثى أولا ثم أعطاه الذكر بعده فكأنه نقله من الغم إلى الفرح وهذا غاية الكرم ، أما إذا أعطى الولد أولا ثم أعطى الأنثى ثانيا فكأنه نقله من الفرح إلى الغم فذكر تعالى هبة الولد الأنثى أولا وثانيا هبة الولد الذكر حتى يكون قد نقله من الغم إلى الفرح فيكون ذلك أليق بالكرم ( الوجه الثاني ) أنه إذا أعطى الولد الأنثى أولا علم أنه لا اعتراض له على الله تعالى فيرضى بذلك فإذا أعطاه الولد الذكر بعد ذلك علم أن هذه الزيادة فضل من الله تعالى وإحسان إليه فيزداد شكره وطاعته ، ويعلم أن ذلك إنما حصل بمحض الفضل والكرم ( والوجه الثالث ) قال بعض المذكرين الأنثى ضعيفة ناقصة عاجزة فقدم ذكرها تنبيها على أنه كلما كان العجز والحاجة أتم كانت عناية الله به أكثر ( الوجه الرابع ) كأنه يقال أيتها المرأة الضعيفة العاجزة إن أباك وأمك يكرهان وجودك فإن كانا قد كرها وجودك فأنا قدمتك في الذكر لتعلمي أن المحسن المكرم هو الله تعالى ، فإذا علمت المرأة ذلك زادت في الطاعة والخدمة والبعد عن موجبات الطعن والذم ، فهذه المعاني هي التي لأجلها وقع ذكر الإناث مقدما على ذكر الذكور وإنما قدم ذكر الذكور بعد ذلك على ذكر الإناث لأن الذكر أكمل وأفضل من الأنثى والأفضل الأكمل مقدم على الأخس الأرذل ، والحاصل أن النظر إلى كونه ذكرا أو أنثى يقتضي تقديم ذكر الذكر على ذكر الأنثى ، أما العوارض الخارجية التي ذكرناها فقد أوجبت تقديم ذكر الأنثى على ذكر الذكر ، فلما حصل المقتضي للتقديم والتأخير في البابين لا جرم قدم هذا مرة وقدم ذلك مرة أخرى ، والله أعلم .

وأما السؤال الثاني : وهو قوله لم عبر عن الإناث بلفظ التنكير ، وعن الذكور بلفظ التعريف ؟ فجوابه أن المقصود منه التنبيه على كون الذكر أفضل من الأنثى .