مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَجَعَلُواْ ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةَ ٱلَّذِينَ هُمۡ عِبَٰدُ ٱلرَّحۡمَٰنِ إِنَٰثًاۚ أَشَهِدُواْ خَلۡقَهُمۡۚ سَتُكۡتَبُ شَهَٰدَتُهُمۡ وَيُسۡـَٔلُونَ} (19)

ثم قال تعالى : { وجعلوا الملئكة الذين هم عباد الرحمان إناثا } وفيه مسائل :

المسألة الأولى : المراد بقوله : { جعلوا } ، أي حكموا به ، ثم قال : { أشهدوا خلقهم } وهذا استفهام على سبيل الإنكار ، يعني أنهم لم يشهدوا خلقهم ، وهذا مما لا سبيل إلى معرفته بالدلائل العقلية ، وأما الدلائل النقلية فكلها مفرعة على إثبات النبوة ، وهؤلاء الكفار منكرون للنبوة ، فلا سبيل لهم إلى إثبات هذا المطلوب بالدلائل النقلية فثبت أنهم ذكروا هذه الدعوى من غير أن عرفوه لا بضرورة ولا بدليل ، ثم إنه تعالى هددهم فقال : { ستكتب شهادتهم ويسألون } وهذا يدل على أن القول بغير دليل منكر ، وأن التقليد يوجب الذم العظيم والعقاب الشديد . قال أهل التحقيق : هؤلاء الكفار كفروا في هذا القول من ثلاثة أوجه ( أولها ) إثبات الولد لله تعالى ( وثانيها ) أن ذلك الولد بنت ( وثالثها ) الحكم على الملائكة بالأنوثة .

المسألة الثانية : قرأ نافع وابن كثير وابن عامر : ( عند الرحمان ) بالنون ، وهو اختيار أبي حاتم واحتج عليه بوجوه ( الأول ) أنه يوافق قوله { إن الذين عند ربك } وقوله { ومن عنده } ( والثاني ) أن كل الخلق عباده فلا مدح لهم فيه ( والثالث ) أن التقدير أن الملائكة يكونون عند الرحمان ، لا عند هؤلاء الكفار ، فكيف عرفوا كونهم إناثا ؟ وأما الباقون فقرؤوا عباد جمع عبد وقيل جمع عابد ، كقائم وقيام ، وصائم وصيام ، ونائم ونيام ، وهي قراءة ابن عباس ، واختيار أبي عبيد ، قال لأنه تعالى رد عليهم قولهم : إنهم بنات الله ، وأخبر أنهم عبيد ، ويؤيد هذه القراءة قوله { بل عباد مكرمون } .

المسألة الثالثة : قرأ نافع وحده : { آأشهدوا } بهمزة ومدة بعدها خفيفة لينة وضمة ، أي «أ » أحضروا خلقهم ، وعن نافع غير ممدود على ما لم يسم فاعله ، والباقون : أشهدوا ، بفتح الألف ، من «أ » شهدوا ، أي أحضروا .

المسألة الرابعة : احتج من قال بتفضيل الملائكة على البشر بهذه الآية ، فقال أما قراءة ( عند ) بالنون ، فهذه العندية لا شك أنها عندية الفضل والقرب من الله تعالى بسبب الطاعة ، ولفظة { قرن هم } توجب الحصر ، والمعنى أنهم هم الموصوفون بهذه العندية لا غيرهم ، فوجب كونهم أفضل من غيرهم رعاية للفظ الدال على الحصر ، وأما من قرأ ( عباد ) جمع العبد ، فقد ذكرنا أن لفظ العباد مخصوص في القرآن بالمؤمنين فقوله { هم عباد الرحمان } يفيد حصر العبودية فيهم ، فإذا كان اللفظ الدال على العبودية دالا على الفضل والشرف ، كان اللفظ الدال على حصر العبودية دالا على حصر الفضل والمنقبة والشرف فيهم وذلك يوجب كونهم أفضل من غيرهم والله أعلم .