مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{لِتَسۡتَوُۥاْ عَلَىٰ ظُهُورِهِۦ ثُمَّ تَذۡكُرُواْ نِعۡمَةَ رَبِّكُمۡ إِذَا ٱسۡتَوَيۡتُمۡ عَلَيۡهِ وَتَقُولُواْ سُبۡحَٰنَ ٱلَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَٰذَا وَمَا كُنَّا لَهُۥ مُقۡرِنِينَ} (13)

السؤال الأول : لم لم يقل على ظهورها ؟ أجابوا عنه من وجوه ( الأول ) قال أبو عبيدة التذكير لقوله ما والتقدير ما تركبون ( الثاني ) قال الفراء أضاف الظهور إلى واحد فيه معنى الجمع بمنزل الجيش والجند ، ولذلك ذكر وجمع الظهور ( الثالث ) أن هذا التأنيث ليس تأنيثا حقيقيا فجاز أن يختلف اللفظ فيه كما يقال عندي من النساء من يوافقك .

السؤال الثاني : يقال ركبوا الأنعام وركبوا في الفلك وقد ذكر الجنسين فكيف قال تركبون ؟ والجواب : غلب المتعدي بغير واسطة لقوته على المعتدي بواسطة .

ثم قال تعالى : { ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه } ومعنى ذكر نعمة الله ، أن يذكروها في قلوبهم ، وذلك الذكر هو أن يعرف أن الله تعالى خلق وجه البحر ، وخلق الرياح ، وخلق جرم السفينة على وجه يتمكن الإنسان من تصريف هذه السفينة إلى أي جانب شاء وأراد ، فإذا تذكروا أن خلق البحر ، وخلق الرياح ، وخلق السفينة على هذه الوجوه القابلة لتصريفات الإنسان ولتحريكاته ليس من تدبير ذلك الإنسان ، وإنما هو من تدبير الحكيم العليم القدير ، عرف أن ذلك نعمة عظيمة من الله تعالى ، فيحمله ذلك على الانقياد والطاعة له تعالى ، وعلى الاشتغال بالشكر لنعمه التي لا نهاية لها .

ثم قال تعالى : { وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين } .

واعلم أنه تعالى عين ذكرا معينا لركوب السفينة ، وهو قوله { بسم الله مجراها ومرساها } وذكرا آخر لركوب الأنعام ، وهو قوله { سبحان الذي سخر لنا هذا } وذكر عند دخول المنازل ذكرا آخر ، وهو قوله { رب أنزلني منزلا مباركا وأنت خير المنزلين } وتحقيق القول فيه أن الدابة التي يركبها الإنسان ، لا بد وأن تكون أكثر قوة من الإنسان بكثير ، وليس لها عقل يهديها إلى طاعة الإنسان ، ولكنه سبحانه خلق تلك البهيمة على وجوه مخصوصة في خلقها الظاهر ، وفي خلقها الباطن يحصل منها هذا الانتفاع ، أما خلقها الظاهر : فلأنها تمشي على أربع قوائم ، فكان ظاهرها كالموضع الذي يحسن استقرار الإنسان عليه ، وأما خلقها الباطن ، فلأنها مع قوتها الشديدة قد خلقها الله سبحانه بحث تصير منقادة للإنسان ومسخرة له ، فإذا تأمل الإنسان في هذه العجائب وغاص بعقله في بحار هذه الأسرار ، عظم تعجبه من تلك القدرة القاهرة والحكمة غير المتناهية ، فلا بد وأن يقول { سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين } قال أبو عبيدة : فلان مقرن لفلان ، أي ضابط له . قال الواحدي : وكان اشتقاقه من قولك ضرب له قرنا ، ومعنى أنا قرن لفلان ، أي مثاله في الشدة ، فكان المعنى أنه ليس عندنا من القوة والطاقة أن نقرن هذه الدابة والفلك وأن نضبطها ، فسبحان من سخرها لنا بعلمه وحكمته وكمال قدرته ، روى صاحب «الكشاف » : عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه كان إذا وضع رجليه في الركاب قال : «بسم الله ، فإذا استوى على الدابة ، قال الحمد لله على كل حال ، سبحان الذي سخر لنا هذا ، إلى قوله لمنقلبون » وروى القاضي في «تفسيره » عن أبي مخلد أن الحسن بن علي عليهما السلام : رأى رجلا ركب دابة ، فقال سبحان الذي من علينا بمحمد صلى الله عليه وسلم ، والحمد لله الذي جعلنا من خير أمة أخرجت للناس ، ثم تقول : سبحان الذي سخر لنا هذا ، وروي أيضا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أنه كان إذا سافر وركب راحلته ، كبر ثلاثا ، ثم يقول : سبحان الذي سخر لنا هذا ، ثم قال : اللهم إني أسألك في سفري هذا البر والتقوى ومن العمل ما ترضى ، اللهم هون علينا السفر واطو عنا بعد الأرض اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة على الأهل ، اللهم أصحبنا في سفرنا ، واخلفنا في أهلنا » وكان إذا رجع إلى أهله يقول «آيبون تائبون ، لربنا حامدون » قال صاحب «الكشاف » : دلت هذه الآية على خلاف قول المجبرة من وجوه ( الأول ) أنه تعالى قال : { لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم } فذكره بلام كي ، وهذا يدل على أنه تعالى أراد منا هذا الفعل ، وهذا يدل على بطلان قولهم أنه تعالى أراد الكفر منه ، وأراد الإصرار على الإنكار ( الثاني ) أن قوله { لتستووا } يدل على أن فعله معلل بالأغراض ( الثالث ) أنه تعالى بين أن خلق هذه الحيوانات على هذه الطبائع إنما كان لغرض أن يصدر الشكر على العبد ، فلو كان فعل العبد فعلا لله تعالى ، لكان معنى الآية إني خلقت هذه الحيوانات لأجل أن أخلق سبحان الله في لسان العبد : وهذا باطل ، لأنه تعالى قادر على أن يخلق هذا اللفظ في لسانه بدون هذه الوسايط .

واعلم أن الكلام على هذه الوجوه معلوم ، فلا فائدة في الإعادة .