مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{قَالَ عِيسَى ٱبۡنُ مَرۡيَمَ ٱللَّهُمَّ رَبَّنَآ أَنزِلۡ عَلَيۡنَا مَآئِدَةٗ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ تَكُونُ لَنَا عِيدٗا لِّأَوَّلِنَا وَءَاخِرِنَا وَءَايَةٗ مِّنكَۖ وَٱرۡزُقۡنَا وَأَنتَ خَيۡرُ ٱلرَّـٰزِقِينَ} (114)

ثم قال تعالى : { قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين }

وفيه مسائل :

المسألة الأولى : أما الكلام في { اللهم } فقد تقدم بالاستقصاء في سورة آل عمران في قوله { قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء } فقوله : { اللهم } نداء ، وقوله { ربنا } نداء ثان وأما قوله { تكون لنا } صفة للمائدة وليس بجواب للأمر ، وفي قراءة عبد الله { تكن } لأنه جعله جواب الأمر . قال الفراء : وما كان من نكرة قد وقع عليها أمر جاز في الفعل بعده الجزم والرفع ، ومثاله قوله تعالى : { فهب لي من لدنك وليا * يرثني } بالجزم والرفع { فأرسله معي ردءا يصدقني } بالجزم والرفع ، وأما قوله { عيدا لأولنا وءاخرنا } أي نتخذ اليوم الذي تنزل فيه المائدة عيدا نعظمه نحن ومن يأتي بعدنا ، ونزلت يوم الأحد فاتخذه النصارى عيدا ، والعيد في اللغة اسم لما عاد إليك في وقت معلوم ، واشتقاقه من عاد يعود فأصله هو العود ، فسمي العيد عيدا لأنه يعود كل سنة بفرح جديد ، وقوله { وآية منك } أي دلالة على توحيدك وصحة نبوة رسولك { وارزقنا } أي وارزقنا طعاما نأكله وأنت خير الرازقين .

المسألة الثانية : تأمل في هذا الترتيب فإن الحواريين لما سألوا المائدة ذكروا في طلبها أغراضا ، فقدموا ذكر الأكل فقالوا { نريد أن نأكل منها } وأخروا الأغراض الدينية الروحانية ، فأما عيسى فإنه لما طلب المائدة وذكر أغراضه فيها قدم الأغراض الدينية وأخر غرض الأكل حيث قال { وارزقنا } وعند هذا يلوح لك مراتب درجات الأرواح في كون بعضها روحانية وبعضها جسمانية ، ثم إن عيسى عليه السلام لشدة صفاء دينه وإشراق روحه لما ذكر الرزق بقوله { وارزقنا } لم يقف عليه بل انتقل من الرزق إلى الرازق فقال { وأنت خير الرازقين } فقوله { ربنا } ابتداء منه بذكر الحق سبحانه وتعالى ، وقوله { أنزل علينا } انتقال من الذات إلى الصفات ، وقوله { تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا } إشارة إلى ابتهاج الروح بالنعمة لا من حيث أنها نعمة ، بل من حيث إنها صادرة عن المنعم وقوله { وآية منك } إشارة إلى كون هذه المائدة دليلا لأصحاب النظر والاستدلال وقوله { وارزقنا } إشارة إلى حصة النفس وكل ذلك نزول من حضرة الجلال . فانظر كيف ابتدأ بالأشرف فالأشرف نازلا إلى الأدون فالأدون . ثم قال : { وأنت خير الرازقين } وهو عروج مرة أخرى من الخلق إلى الخالق ومن غير الله إلى الله ومن الأخس إلى الأشرف ، وعند ذلك تلوح لك شمة من كيفية عروج الأرواح المشرقة النورانية الإلهية ونزولها اللهم اجعلنا من أهله .

المسألة الثالثة : في قراءة زيد { يكون لنا عيدا لأولنا وءاخرنا } والتأنيث بمعنى الآية .