قوله تعالى : { يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم }
اعلم أن عادة الله تعالى جارية في هذا الكتاب الكريم أنه إذا ذكر أنواعا كثيرة من الشرائع والتكاليف والأحكام ، أتبعها إما بالإلهيات ، وإما بشرح أحوال الأنبياء ، أو بشرح أحوال القيامة ليصير ذلك مؤكدا لما تقدم ذكره من التكاليف والشرائع فلا جرم لما ذكر فيما تقدم أنواعا كثيرة من الشرائع أتبعها بوصف أحوال القيامة أولا ، ثم ذكر أحوال عيسى . أما وصف أحوال القيامة فهو قوله { يوم يجمع الله الرسل } وفيه مسائل :
المسألة الأولى : في هذه الآية قولان : أحدهما : أنها متصلة بما قبلها وعلى هذا التقدير ففيه وجهان : الأول : قال الزجاج تقديره : واتقوا الله يوم يجمع الله الرسل ، ولا يجوز أن ينصب على الظرف لهذا الفعل لأنهم لم يؤمروا بالتقوى في ذلك اليوم ، ولكن على المفعول له . الثاني : قال القفال رحمه الله : يجوز أن يكون التقدير : والله لا يهدي القوم الفاسقين يوم يجمع الله الرسل ، أي لا يهديهم إلى الجنة كما قال { ولا ليهديهم طريقا إلا طريق جهنم } . والقول الثاني : أنها منقطعة عما قبلها ، وعلى هذا التقدير ففيه أيضا وجهان : الأول : أن التقدير : اذكر يوم يجمع الله الرسل . والثاني : أن يكون التقدير : يوم يجمع الله الرسل كان كيت وكيت .
المسألة الثانية : قال صاحب الكشاف : قوله ماذا منتصب بأجبتم انتصاب مصدره على معنى أي أجابه أجبتم إجابة إنكار أم إجابة إقرار . ولو أريد الجواب لقيل بماذا أجبتم . فإن قيل : وأي فائدة في هذا السؤال ؟ قلنا : توبيخ قومهم كما أن قوله { وإذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت } المقصود منه توبيخ من فعل ذلك الفعل .
المسألة الثالثة : ظاهر قوله تعالى : { قالوا لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب } يدل على أن الأنبياء لا يشهدون لأممهم . والجمع بين هذا وبين قوله تعالى : { فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا } مشكل . وأيضا قوله تعالى : { وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا } فإذا كانت أمتنا تشهد لسائر الناس فالأنبياء أولى بأن يشهدوا لأممهم بذلك .
والجواب عنه من وجوه : الأول : قال جمع من المفسرين إن للقيامة زلازل وأهوالا بحيث تزول القلوب عن مواضعها عند مشاهدتها . فالأنبياء عليهم الصلاة والسلام عند مشاهدة تلك الأهوال ينسون أكثر الأمور ، فهنالك يقولون لا علم لنا ، فإذا عادت قلوبهم إليهم فعند ذلك يشهدون للأمم . وهذا الجواب وإن ذهب إليه جمع عظيم من الأكابر فهو عندي ضعيف ، لأنه تعالى قال في صفة أهل الثواب { لا يحزنهم الفزع الأكبر } وقال أيضا { وجوه يومئذ مسفرة ضاحكة مستبشرة } بل إنه تعالى قال : { إن الذين ءامنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من ءامن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف ولا هم يحزنون } فكيف يكون حال الأنبياء والرسل أقل من ذلك ، ومعلوم أنهم لو خافوا لكانوا أقل منزلة من هؤلاء الذين أخبر الله تعالى عنهم أنهم لا يخافون البتة . والوجه الثاني : أن المراد منه المبالغة في تحقيق فضيحتهم كمن يقول لغيره ما تقول في فلان ؟ فيقول : أنت اعلم به مني ، كأنه قيل : لا يحتاج فيه إلى الشهادة لظهوره ، وهذا أيضا ليس بقوي لأن السؤال إنما وقع عن كل الأمة ، وكل الأمة ما كانوا كافرين حتى تريد الرسل بالنفي تبكيتهم وفضيحتهم .
والوجه الثالث : في الجواب وهو الأصح ، وهو الذي اختاره ابن عباس أنهم إنما قالوا لا علم لنا لأنك تعلم ما أظهروا وما أضمروا ونحن لا نعلم إلا ما أظهروا فعلمك فيهم أنفذ من علمنا . فلهذا المعنى نفوا العلم عن أنفسهم لأن علمهم عند الله كلا علم .
والوجه الرابع : في الجواب أنهم قالوا : لا علم لنا ، إلا أن علمنا جوابهم لنا وقت حياتنا ، ولا نعلم ما كان منهم بعد وفاتنا . والجزاء والثواب إنما يحصلان على الخاتمة وذلك غير معلوم لنا . فلهذا المعنى قالوا لا علم لنا وقوله { إنك أنت علام الغيوب } يشهد بصحة هذين الجوابين .
الوجه الخامس : وهو الذي خطر ببالي وقت الكتابة ، أنه قد ثبت في علم الأصول أن العلم غير ، والظن غير ، والحاصل عند كل أحد من حال الغير ، إنما هو الظن لا العلم ، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام : «نحن نحكم بالظاهر والله يتولى السرائر » وقال عليه الصلاة والسلام : «إنكم لتختصمون لدي ولعل بعضكم ألحن بحجته ، فمن حكمت له بغير حقه فكأنما قطعت له قطعة من النار » أو لفظ هذا معناه . فالأنبياء قالوا : لا علم لنا البتة بأحوالهم ، إنما الحاصل عندنا من أحوالهم هو الظن ، والظن كان معتبرا في الدنيا ، لأن الأحكام في الدنيا كانت مبنية على الظن ، وأما الآخرة فلا التفات فيها إلى الظن لأن الأحكام في الآخرة مبنية على حقائق الأشياء ، وبواطن الأمور . فلهذا السبب قالوا { لا علم لنا إلا ما علمتنا } ولم يذكروا البتة ما معهم من الظن لأن الظن لا عبرة به في القيامة .
الوجه السادس : أنهم لما علموا أنه سبحانه وتعالى عالم لا يجهل ، حكيم لا يسفه ، عادل لا يظلم ، علموا أن قولهم لا يفيد خيرا ، ولا يدفع شرا ، فرأوا أن الأدب في السكوت ، وفي تفويض الأمر إلى عدل الحي القيوم الذي لا يموت .
المسألة الرابعة : قرئ { علام الغيوب } بالنصب . قال صاحب الكشاف : والتقدير أن الكلام قد تم بقوله { إنك أنت } أي أنت الموصوف بأوصافك المعروفة ، من العلم وغيره . ثم نصب { علام الغيوب } على الاختصاص ، أو على النداء ، أو وصفا لاسم إن .
المسألة الخامسة : دلت الآية على جواز إطلاق لفظ العلام عليه ، كما جاز إطلاق لفظ الخلاق عليه . أما العلامة فإنهم أجمعوا على أنه لا يجوز إطلاقها في حقه ولعل السبب ما فيه من لفظ التأنيث .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.