ثم قال تعالى : { لقد أرسلنا رسلنا بالبينات } وفي تفسير البينات قولان : ( الأول ) : وهو قول مقاتل بن سليمان إنها هي المعجزات الظاهرة والدلائل القاهرة ( والثاني ) : وهو قول مقاتل بن حيان : أي أرسلناهم بالأعمال التي تدعوهم إلى طاعة الله وإلى الإعراض عن غير الله ، والأول هو الوجه الصحيح لأن نبوتهم إنما ثبتت بتلك المعجزات .
ثم قال تعالى : { وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس } .
واعلم أن نظير هذه الآية قوله : { الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان } وقال : { والسماء رفعها ووضع الميزان } وهاهنا مسائل :
المسألة الأولى : في وجه المناسبة بين الكتاب والميزان والحديد وجوه . ( أحدها ) : وهو الذي أقوله أن مدار التكليف على أمرين : ( أحدهما ) : فعل ما ينبغي فعله ( والثاني ) : ترك ما ينبغي تركه ، والأول هو المقصود بالذات ، لأن المقصود بالذات لو كان هو الترك لوجب أن لا يخلق أحد ، لأن الترك كان حاصلا في الأزل ، وأما فعل ما ينبغي فعله ، فإما أن يكون متعلقا بالنفس ، وهو المعارف ، أو بالبدن وهو أعمال الجوارح ، فالكتاب هو الذي يتوسل به إلى فعل ما ينبغي من الأفعال النفسانية ، لأن يتميز الحق من الباطل ، والحجة من الشبهة ، والميزان هو الذي يتوسل به إلى فعل ما ينبغي من الأفعال البدنية ، فإن معظم التكاليف الشاقة في الأعمال هو ما يرجع إلى معاملة الخلق ، والميزان هو الذي يتميز به العدل عن الظلم والزائد عن الناقص ، وأما الجديد ففيه بأس شديد ، وهو زاجر للخلق عما لا ينبغي ، والحاصل أن الكتاب إشارة إلى القوة النظرية ، والميزان إلى القوة العملية ، والحديد إلى دفع مالا ينبغي ، ولما كان أشرف الأقسام رعاية المصالح الروحانية ، ثم رعاية المصالح الجسمانية ، ثم الزجر عما لا ينبغي ، روعي هذا الترتيب في هذه الآية ( وثانيها ) : المعاملة إما مع الخالق وطريقها الكتاب أو مع الخلق وهم : إما الأحباب والمعاملة معهم بالسوية وهي بالميزان ، أو مع الأعداء والمعاملة معهم بالسيف والحديد ( وثالثها ) : الأقوام ثلاثة : أما السابقون وهم يعاملون الخلق بمقتضى الكتاب ، فينصفون ولا ينتصفون ، ويحترزون عن مواقع الشبهات ، وإما مقتصدون وهم الذين ينصفون وينتصفون ، فلا بد لهم من الميزان ، وإما ظالمون وهم الذين ينتصفون ولا ينصفون ولا بد لهم من الحديد والزجر ( ورابعها ) : الإنسان ، إما أن يكون في مقام الحقيقة وهو مقام النفس المطمئنة ومقام المقربين ، فهاهنا لا يسكن إلا إلى الله ، ولا يعمل إلا بكتاب الله ، كما قال : { ألا بذكر الله تطمئن القلوب } وإما أن يكون في مقام الطريقة وهو مقام النفس اللوامة ، ومقام أصحاب اليمين ، فلا بد له من الميزان في معرفة الأخلاق حتى يحترز عن طرفي الإفراط والتفريط ، ويبقى على الصراط المستقيم وإما أن يكون في مقام الشريعة وهو مقام النفس الأمارة ، وهاهنا لا بد له من حديد المجاهدة والرياضات الشاقة ( وخامسها ) : الإنسان إما أن يكون صاحب المكاشفة والوصول فلا أنس له إلا بالكتاب ، أو صاحب الطلب والاستدلال فلا بد له من ميزان الدليل والحجة أو صاحب العناد واللجاج ، فلا بد وأن ينفى من الأرض بالحديد ( وسادسها ) : أن الدين هو إما الأصول وإما الفروع ، وبعبارة أخرى : إما المعارف وإما الأعمال ، فالأصول من الكتاب ، وأما الفروع : فالمقصود الأفعال التي فيها عدلهم ومصلحتهم وذلك بالميزان فإنه إشارة إلى رعاية العدل ، والحديد لتأديب من ترك ذينك الطريقين ( وسابعها ) : الكتاب إشارة إلى ما ذكر الله في كتابه من الأحكام المقتضية للعدل والإنصاف ، والميزان إشارة إلى حمل الناس على تلك الأحكام المبنية على العدل والإنصاف وهو شأن الملوك ، والحديد إشارة إلى أنهم لو تمردوا لوجب أن يحملوا عليهما بالسيف ، وهذا يدل على أن مرتبة العلماء وهم أرباب الكتاب مقدمة على مرتبة الملوك الذين هم أرباب السيف ، ووجوه المناسبات كثيرة ، وفيما ذكرناه تنبيه على الباقي .
المسألة الثانية : ذكروا في : إنزال الميزان وإنزال الحديد ، قولين : ( الأول ) : أن الله تعالى أنزلهما من السماء ، روي أن جبريل عليه السلام نزل بالميزان فدفعه إلى نوح ، وقال : مر قومك يزنوا به ، وعن ابن عباس نزل آدم من الجنة ومعه خمسة أشياء من الحديد السندان والكلبتان والمقمعة والمطرقة والإبرة ، والمقعمة ما يحدد به ، ويدل على صحة هذا ما روى ابن عمر أنه عليه الصلاة والسلام قال : « إن الله تعالى أنزل أربع بركات من السماء إلى الأرض : أنزل الحديد والنار والماء والملح » ( والقول الثاني ) : أن معنى هذا الإنزال الإنشاء والتهيئة ، كقوله تعالى : { وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج } قال قطرب : { أنزلناها } أي هيأناها من النزل ، يقال : أنزل الأمير على فلان نزلا حسنا ، ومنهم من قال هذا من جنس قوله : علفتها تبنا وماء باردا ، وأكلت خبزا ولبنا .
المسألة الثالثة : ذكر في منافع الميزان أن يقوم الناس بالقسط ، والقسط والإقساط هو الإنصاف وهو أن تعطى قسط غيرك كما تأخذ قسط نفسك ، والعادل مقسط قال الله تعالى : { إن الله يحب المقسطين } والقاسط الجائر قال تعالى : { وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا } وأما الحديد ففيه البأس الشديد فإن آلات الحروب متخذة منه ، وفيه أيضا منافع كثيرة منها قوله تعالى : { وعلمناه صنعة لبوس لكم } ومنها أن مصالح العالم ، إما أصول ، وإما فروع ، أما الأصول فأربعة : الزراعة والحياكة وبناء البيوت والسلطنة ، وذلك لأن الإنسان مضطر إلى طعام يأكله وثوب يلبسه وبناء يجلس فيه ، والإنسان مدني بالطبع فلا تتم مصلحته إلا عند اجتماع جمع من أبناء جنسه يشتغل كل واحد منهم بمهم خاص ، فحينئذ ينتظم من الكل مصالح الكل ، وذلك الانتظام لا بد وأن يفضي إلى المزاحمة ، ولا بد من شخص يدفع ضرر البعض عن البعض ، وذلك هو السلطان ، فثبت أنه لا تنتظم مصلحة العالم إلا بهذه الحروف الأربعة ، أما الزراعة فمحتاجة إلى الحديد ، وذلك في كرب الأراضي وحفرها ، ثم عند تكون هذه الحبوب وتولدها لا بد من خبزها وتنقيتها ، وذلك لا يتم إلا بالحديد ، ثم الحبوب لا بد من طحنها وذلك لا يتم إلا بالحديد ، ثم لا بد من خبزها ولا يتم إلا بالنار ، ولا بد من المقدحة الحديدية ، وأما الفواكه فلا بد من تنظيفها عن قشورها ، وقطعها على الوجوه الموافقة للأكل ولا يتم ذلك إلا بالحديد ، وأما الحياكة فمعلوم أنه يحتاج في آلات الحياكة إلى الحديد ثم يحتاج في قطع الثياب وخياطتها إلى الحديد ، وأما البناء فمعلوم أن كمال الحال فيه لا يحصل إلا بالحديد ، وأما أسباب السلطنة فمعلوم أنها لا تتم ولا تكمل إلا بالحديد ، وعند هذا يظهر أن أكثر مصالح العالم لا تتم إلا بالحديد ، ويظهر أيضا أن الذهب لا يقوم مقام الحديد في شيء من هذه المصالح فلو لم يوجد الذهب في الدنيا ما كان يختل شيء من مصالح الدنيا ، ولو لم يوجد الحديد لاختل جميع مصالح الدنيا ، ثم إن الحديد لما كانت الحاجة إليه شديدة ، جعله سهل الوجدان ، كثير الوجود ، والذهب لما قلت الحاجة إليه جعله عزيز الوجود ، وعند هذا يظهر أثر وجود الله تعالى ورحمته على عبيده ، فإن كل ما كانت حاجتهم إليه أكثر ، جعل وجدانه أسهل ، ولهذا قال بعض الحكماء إن أعظم الأمور حاجة إليه هو الهواء ، فإنه لو انقطع وصوله إلى القلب لحظة لمات الإنسان في الحال ، فلا جرم جعله الله أسهل الأشياء وجدانا ، وهيأ أسباب التنفس وآلاته ، حتى إن الإنسان يتنفس دائما بمقتضى طبعه من غير حاجة فيه إلى تكلف عمل ، وبعد الهواء الماء ، إلا أنه لما كانت الحاجة إلى الماء أقل من الحاجة إلى الهواء جعل تحصيل الماء أشق قليلا من تحصيل الهواء ، وبعد الماء الطعام ، ولما كانت الحاجة إلى الطعام أقل من الحاجة إلى الماء ، جعل تحصيل الطعام أشق من تحصيل الماء ، ثم تتفاوت الأطعمة في درجات الحاجة والعزة فكل ما كانت الحاجة إليه أشد ، كان وجدانه أسهل ، وكل ما كان وجدانه أعسر كانت الحاجة إليه أقل ، والجواهر لما كانت الحاجة إليها قليلة جدا ، لا جرم كانت عزيزة جدا ، فعلمنا أن كل شيء كانت الحاجة إليه أكثر كان وجدانه أسهل ، ولما كانت الحاجة إلى رحمة الله تعالى أشد من الحاجة إلى كل شيء فنرجو من فضله أن يجعلها أسهل الأشياء وجدانا ، قال الشاعر :
سبحان من خص العزيز بعزه *** والناس مستغنون عن أجناسه
وأذل أنفاس الهواء وكل ذي *** نفس فمحتاج إلى أنفاسه
ثم قال تعالى : { وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوى عزيز } وفيه مسائل :
المسألة الأولى : المعنى وليعلم الله من ينصره ، أي ينصر دينه ، وينصر رسله باستعمال السيوف والرماح وسائر السلاح في مجاهدة أعداء الدين بالغيب أي غائبا عنهم . قال ابن عباس : ينصرونه ولا يبصرونه ، ويقرب منه قوله تعالى : { إن تنصروا الله ينصركم } .
المسألة الثانية : احتج من قال بحدوث علم الله بقوله : { وليعلم الله } والجواب عنه أنه تعالى أراد بالعلم المعلوم ، فكأنه تعالى قال : ولتقع نصرة الرسول عليه الصلاة والسلام ممن ينصره .
المسألة الثالثة : قال الجبائي : قوله تعالى : { ليقوم الناس بالقسط } فيه دلالة على أنه تعالى أنزل الميزان والحديد ، ومراده من العباد أن يقوموا بالقسط وأن ينصروا الرسول ، وإذا كان هذا مراده من الكل فقد بطل قول المجبرة أنه أراد من بعضهم خلاف ذلك ( جوابه ) : أنه كيف يمكن أن يريد من الكل ذلك مع علمه بأن ضده موجود ، وأن الجمع بين الضدين محال ، وأن المحال غير مراد .
المسألة الرابعة : لما كانت النصرة قد تكون ظاهرة ، كما يقع من منافق أو ممن مراده المنافع في الدنيا ، بين تعالى أن الذي أراده النصرة بالغيب ، ومعناه أن تقع عن إخلاص بالقلب ، ثم بين تعالى أنه قوي على الأمور عزيز لا يمانع .