مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{لِّكَيۡلَا تَأۡسَوۡاْ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمۡ وَلَا تَفۡرَحُواْ بِمَآ ءَاتَىٰكُمۡۗ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخۡتَالٖ فَخُورٍ} (23)

قوله تعالى : { لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور } . وفيه مسائل :

المسألة الأولى : هذه اللام تفيد جعل أول الكلام سببا لآخره ، كما تقول : قمت لأضربك فإنه يفيد أن القيام سبب للضرب ، وهاهنا كذلك لأنه تعالى بين أن إخبار الله عن كون هذه الأشياء واقعة بالقضاء والقدر ، ومثبتة في الكتاب الذي لا يتغير يوجب أن لا يشتد فرح الإنسان بما وقع ، وأن لا يشتد حزنه بما لم يقع ، وهذا هو المراد بقوله عليه السلام : « من عرف سر الله في القدر هانت عليه المصائب » وتحقيق الكلام فيه أن على مذهب أهل السنة أن وقوع كل ما وقع واجب ، وعدم كل ما لم يقع واجب أيضا لأسباب أربعة ( أحدها ) : أن الله تعالى علم وقوعه ، فلو لم يقع انقلب العلم جهلا ( ثانيها ) : أن الله أراد وقوعه ، فلو لم يقع انقلبت الإرادة تمنيا ( ثالثها ) : أنه تعلقت قدرة الله تعالى بإيقاعه ، فلو لم يقع لانقلبت تلك القدرة عجزا ، ( رابعها ) : أن الله تعالى حكم بوقوعه بكلامه الذي هو صدق فلو لم يقع لانقلب ذلك الخبر الصدق كذبا ، فإذن هذا الذي وقع لو لم يقع لتغيرت هذه الصفات الأربعة من كمالها إلى النقص ، ومن قدمها إلى الحدوث ، ولما كان ذلك ممتنعا علمنا أنه لا دافع لذلك الوقوع ، وحينئذ يزول الغم والحزن ، عند ظهور هذه الخواطر وهانت عليه المحن والمصائب ، وأما المعتزلة فهب أنهم ينازعون في القدرة والإرادة ، ولكنهم يوافقون في العلم والخير ، وإذا كان الجبر لازما في هاتين الصفتين ، فأي فرق بين أن يلزم الجبر بسبب هاتين الصفتين وبين أن يلزم بسبب الصفات الأربع ، وأما الفلاسفة فالجبر مذهبهم ، وذلك لأنهم ربطوا حدوث الأفعال الإنسانية بالتصورات الذهنية والتخيلات الحيوانية ، ثم ربطوا تلك التصورات والتخيلات بالأدوار الفلكية التي لها مناهج مقدرة ، ويمتنع وقوع ما يخالفها ، وأما الدهرية الذين لا يثبتون شيئا من المؤثرات فهم لا بد وأن يقولوا بأن حدوث الحوادث اتفاقي ، وإذا كان اتفاقيا لم يكن اختياريا ، فيكون الجبر لازما ، فظهر أنه لا مندوحة عن هذا لأحد من فرق العقلاء ، سواء أقروا به أو أنكروه ، فهذا بيان وجه استدلال أهل السنة بهذه الآية ، قالت المعتزلة : الآية دالة على صحة مذهبنا في كون العيد متمكنا مختارا ، وذلك من وجوه ( الأول ) : أن قوله : { لكيلا تأسوا على ما فاتكم } يدل على أنه تعالى إنما أخبرهم بكون تلك المصائب مثبتة في الكتاب لأجل أن يحترزوا عن الحزن والفرح ، ولولا أنهم قادرون على تلك الأفعال لما بقي لهذه اللام فائدة ( والثاني ) : أن هذه الآية تدل على أنه تعالى لا يريد أن يقع منهم الحزن والفرح وذلك خلاف قول المجبرة : إن الله تعالى أراد كل ذلك منهم ( والثالث ) : أنه تعالى قال بعد هذه الآية : { والله لا يحب كل مختال فخور } وهذا يدل على أنه تعالى لا يريد ذلك لأن المحبة والإرادة سواء ، فهو خلاف قول المجبرة : إن كل واقع فهو مراد الله تعالى ( الرابع ) : أنه تعالى أدخل لام التعليل على فعله بقوله : { لكيلا } وهذا يدل على أن أفعال الله تعالى معللة بالغرض ، وأقول : العاقل يتعجب جدا من كيفية تعلق هذه الآيات بالجبر والقدر وتعلق كلتا الطائفتين بأكثرها .

المسألة الثانية : قال أبو علي الفارسي قرأ أبو عمرو وحده : { بما آتاكم } قصرا ، وقرأ الباقون : { آتاكم } ممدودا ، حجة أبي عمرو أن : { أتاكم } معادل لقوله : { فاتكم } فكما أن الفعل للغائب في قوله : { فاتكم } كذلك يكون الفعل للآني في قوله : { بما آتاكم } والعائد إلى الموصول في الكلمتين الذكر المرفوع بأنه فاعل ، وحجة الباقين أنه إذا مد كان ذلك منسوبا إلى الله تعالى وهو المعطي لذلك ، ويكون فاعل الفعل في : { آتاكم } ضميرا عائدا إلى اسم الله سبحانه وتعالى والهاء محذوفة من الصلة تقديره بما آتاكموه .

المسألة الثالثة : قال المبرد : ليس المراد من قوله : { لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم } نفي الأسى والفرح على الإطلاق بل معناه لا تحزنوا حزنا يخرجكم إلى أن تهلكوا أنفسكم ولا تعتدوا بثواب على فوات ما سلب منكم ، ولا تفرحوا فرحا شديد يطغيكم حتى تأشروا فيه وتبطروا ، ودليل ذلك قوله تعالى : { والله لا يحب كل مختال } فدل بهذا على أنه ذم الفرح الذي يختال فيه صاحبه ويبطر ، وأما الفرح بنعمة الله والشكر عليها فغير مذموم ، وهذا كله معنى ما روى عكرمة عن ابن عباس أنه قال : ليس أحد إلا وهو يفرح ويحزن ولكن اجعلوا للمصيبة صبرا وللخير شكرا . واحتج القاضي بهذه الآية على أنه تعالى لا يريد أفعال العباد ( والجواب ) عنه أن كثيرا من أصحابنا من فرق بين المحبة والإرادة فقال : المحبة إرادة مخصوصة ، وهي إرادة الثواب فلا يلزم من نفي هذه الإرادة نفي مطلق الإرادة .