مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{۞وَلَهُۥ مَا سَكَنَ فِي ٱلَّيۡلِ وَٱلنَّهَارِۚ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡعَلِيمُ} (13)

قوله تعالى { وله ما سكن في الليل والنهار وهو السميع العليم * قل أغير الله أتخذ وليا فاطر السماوات والأرض وهو يطعم ولا يطعم قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم ولا تكونن من المشركين * قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم }

في الآية مسائل :

في الآية مسائل : المسألة الأولى : اعلم أن أحسن ما قيل في نظم هذه الآية ما ذكره أبو مسلم رحمه الله تعالى فقال : ذكر في الآية الأولى السماوات والأرض ، إذ لا مكان سواهما . وفي هذه الآية ذكر الليل والنهار إذ لا زمان سواهما ، فالزمان والمكان ظرفان للمحدثات ، فأخبر سبحانه أنه مالك للمكان والمكانيات ، ومالك للزمان والزمانيات ، وهذا بيان في غاية الجلالة .

وأقول هاهنا دقيقة أخرى ، وهو أن الابتداء وقع بذكر المكان والمكانيات ، ثم ذكر عقيبه الزمان والزمانيات ، وذلك لأن المكان والمكانيات أقرب إلى العقول والأفكار من الزمان والزمانيات ، لدقائق مذكورة في العقليات الصرفة ، والتعليم الكامل هو الذي يبدأ فيه بالأظهر فالأظهر مترقيا إلى الأخفى فالأخفى ، فهذا ما يتعلق بوجه النظم .

المسألة الثانية : قوله : { وله ما سكن في الليل والنهار } يفيد الحصر والتقدير : هذه الأشياء له لا لغيره ، وهذا هو الحق لأن كل موجود فهو إما واجب لذاته ، وإما ممكن لذاته ، فالواجب لذاته ليس إلا الواحد . وما سرى ذلك الواحد ممكن . والممكن لا يوجد إلا بإيجاد الواجب لذاته ، وكل ما حصل بإيجاده وتكوينه كان ملكا له ، فثبت أن ما سوى ذلك الموجود الواجب لذاته فهو ملكه ومالكه فلهذا السبب قال { وله ما سكن في الليل والنهار } .

المسألة الثالثة : في تفسير هذا السكون قولان : الأول : أن المراد منه الشيء الذي سكن بعد أن تحرك ، فعلى هذا ، المراد كل ما استقر في الليل والنهار من الدواب ، وجملة الحيوانات في البر والبحر وعلى هذا التقدير : قالوا في الآية محذوف والتقدير : وله ما سكن وتحرك في الليل والنهار كقوله تعالى : { سرابيل تقيكم الحر } أراد الحر والبرد فاكتفى بذكر أحدهما عن الآخر لأنه يعرف ذلك بالقرينة المذكورة ، كذلك هنا حذف ذكر الحركة ، لأن ذكر السكون يدل عليه .

والقول الثاني : أنه ليس المراد من هذا السكون ما هو ضد الحركة ، بل المراد منه السكون بمعنى الحلول . كما يقال : فلان يسكن بلد كذا إذا كان محله فيه ، ومنه قوله تعالى : { وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم } وعلى هذا التقدير : كان المراد ، وله كل ما حصل في الليل والنهار . والتقدير : كل ما حصل في الوقت والزمان سواء كان متحركا أو ساكنا ، وهذا التفسير أولى وأكمل . والسبب فيه أن كل ما دخل تحت الليل والنهار حصل في الزمان فقد صدق عليه أنه انقضى الماضي وسيجيء المستقبل ، وذلك مشعر بالتغير وهو الحدوث ، والحدوث ينافي الأزلية والدوام ، فكل ما مر به الوقت ودخل تحت الزمان فهو محدث ، وكل حادث فلابد له من محدث ، وفاعل ذلك الفعل يجب أن يكون متقدما عليه ، والمتقدم على الزمان يجب أن يكون مقدما على الوقت والزمان فلا تجري عليه الأوقات ولا تمر به الساعات ولا يصدق عليه أنه كان وسيكون .

واعلم أنه تعالى لما بين فيما سبق أنه مالك للمكان وجملة المكانيات ومالك للزمان وجملة الزمانيات ، بين أنه سميع عليم يسمع نداء المحتاجين ويعلم حاجات المضطرين . والمقصود منه الرد على من يقول الإله تعالى موجب بالذات ، فنبه على أنه وإن كان مالكا لكل المحدثات لكنه فاعل مختار يسمع ويرى ويعلم السر وأخفى ، ولما قرر هذه المعاني قال : { قل أغير الله أتخذ وليا } .