مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{مَّن يُصۡرَفۡ عَنۡهُ يَوۡمَئِذٖ فَقَدۡ رَحِمَهُۥۚ وَذَٰلِكَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡمُبِينُ} (16)

{ من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه وذلك الفوز المبين }

في الآية مسائل :

المسألة الأولى : اعلم أنه قرأ أبو بكر عن عاصم وحمزة والكسائي { يصرف } بفتح الياء وكسر الراء . وفاعل الصرف على هذه القراءة والضمير العائد إلى ربي من قوله { إني أخاف إن عصيت ربى } والتقدير : من يصرف هو عنه يومئذ العذاب . وحجة هذه القراءة قوله { فقد رحمه } فلما كان هذا فعلا مسندا إلى ضمير اسم الله تعالى وجب أن يكون الأمر في تلك اللفظة الأخرى على هذا الوجه ليتفق الفعلان ، وعلى هذا التقدير : صرف العذاب مسندا إلى الله تعالى ، وتكون الرحمة بعد ذلك مسندة إلى الله تعالى ، وأما الباقون فإنهم قرؤوا { من يصرف عنه } على فعل ما لم يسم فاعله ، والتقدير من يصرف عنه عذاب يومئذ وإنما حسن ذلك لأنه تعالى أضاف العذاب إلى اليوم في قوله { عذاب يوم عظيم } فلذلك أضاف الصرف إليه . والتقدير : من يصرف عنه عذاب ذلك اليوم .

المسألة الثانية : ظاهر الآية يقتضي كون ذلك اليوم مصروفا وذلك محال ، بل المراد عذاب ذلك اليوم ، وحسن هذا الحذف لكونه معلوما .

المسألة الثالثة : دلت الآية على أن الطاعة لا توجب الثواب ، والمعصية لا توجب العقاب لأنه تعالى قال : { من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه } أي كل من صرف الله عنه العذاب في ذلك اليوم فقد رحمه . وهذا إنما يحسن لو كان ذلك الصرف واقعا على سبيل التفضل ، أما لو كان واجبا مستحقا لم يحسن أن يقال فيه إنه رحمه ألا ترى أن الذي يقبح منه أن يضرب العبد ، فإذا لم يضربه لا يقال إنه رحمه . أما إذا حسن منه أن يضربه ولم يضربه فإنه يقال إنه رحمه ، فهذه الآية تدل على أن كل عقاب انصرف وكل ثواب حصل ، فهو ابتداء فضل وإحسان من الله تعالى ، وهو موافق لما يروى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «والذي نفسي بيده ما من الناس أحد يدخل الجنة بعمله ، قالوا ولا أنت يا رسول الله قال ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته » ووضع يده فوق رأسه ، وطول بها صوته .

المسألة الرابعة : قال القاضي : الآية تدل على أن من لم يعاقب في الآخرة ممن يصرف عنه العقاب ، فلابد من أن يثاب وذلك يبطل قول من يقول : إن فيمن يصرف عنه العقاب من المكلفين من لا يثاب ، لكنه يتفضل عليه .

فإن قيل : أليس من لم يعاقبه الله تعالى ويتفضل عليه فقد حصل له الفوز المبين وذلك يبطل دلالة الآية على قولكم ؟

قلنا : هذا الذي ذكرتموه مدفوع من وجوه : الأول : أن التفضل يكون كالابتداء من قبل الله تعالى ، وليس يكون ذلك مطلوبا من الفعل والفوز هو الظفر بالمطلوب ، فلابد وأن يفيد أمرا مطلوبا . والثاني : أن الفوز المبين لا يجوز حمله على التفضل بل يجب حمله على ما يقتضي مبالغة في عظم النعمة ، وذلك لا يكون إلا ثوابا . والثالث : أن الآية معطوفة على قوله { إني أخاف إن عصيت ربى عذاب يوم عظيم } والمقابل للعذاب هو الثواب ، فيجب حمل هذه الرحمة على الثواب .

واعلم أن هذا الاستدلال ضعيف جدا وضعفه ظاهر ، فلا حاجة فيه إلى الاستقصاء والله أعلم .