مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{قُلۡ أَغَيۡرَ ٱللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّٗا فَاطِرِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَهُوَ يُطۡعِمُ وَلَا يُطۡعَمُۗ قُلۡ إِنِّيٓ أُمِرۡتُ أَنۡ أَكُونَ أَوَّلَ مَنۡ أَسۡلَمَۖ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ} (14)

واعلم أنه فرق بين أن يقال { أغير الله أتخذ وليا } وبين أن يقال : أتخذ غير الله وليا لأن الإنكار إنما حصل على اتخاذ غير الله وليا ، لا على اتخاذ الولي ، وقد عرفت أنهم يقدمون الأهم فالأهم الذي هم بشأنه أعنى فكأن قوله { قل أغير الله أتخذ وليا } أولى من العبارة الثانية ، ونظيره قوله تعالى : { أفغير الله تأمروني أعبد } وقوله تعالى : { الله أذن لكم } .

ثم قال { فاطر السماوات والأرض } وقرئ { فاطر السماوات } بالجر صفة الله وبالرفع على إضمار " هو " والنصب على المدح . وقرأ الزهري { فطر السماوات } وعن ابن عباس : ما عرفت { فاطر السماوات } حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر فقال أحدهما : أنا فطرتها أي ابتدأتها وقال ابن الأنباري : أصل الفطر شق الشيء عند ابتدائه ، فقوله { فاطر السماوات والأرض } يريد خالقهما ومنشئهما بالتركيب الذي سبيله أن يحصل فيه الشق والتأليف عند ضم الأشياء إلى بعض ، فلما كان الأصل الشق جاز أن يكون في حال شق إصلاح وفي حال أخرى شق إفساد . ففاطر السماوات من الإصلاح لا غير . وقوله { هل ترى من فطور } و{ إذا السماء انفطرت } من الإفساد ، وأصلهما واحد .

ثم قال تعالى : { وهو يطعم ولا يطعم } أي وهو الرازق لغيره ولا يرزقه أحد .

فإن قيل : كيف فسرت الاطعام بالرزق ؟ وقد قال تعالى : { ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون } والعطف يوجب المغايرة .

قلنا : لا شك في حصول المغايرة بينهما ، إلا أنه قد يحسن جعل أحدهما كناية عن الآخر لشدة ما بينهما من المقاربة والمقصود من الآية : أن المنافع كلها من عنده ، ولا يجوز عليه الانتفاع . وقرئ { ولا يطعم } بفتح الياء ، وروى ابن المأمون عن يعقوب { وهو يطعم ولا يطعم } على بناء الأول للمفعول والثاني للفاعل ، وعلى هذا التقدير : فالضمير عائد إلى المذكور في قوله { أغير الله } وقرأ الأشهب { وهو يطعم ولا يطعم } على بنائهما للفاعل . وفسر بأن معناه : وهو يطعم ولا يستطعم . وحكى الأزهري : أطعمت بمعنى استطعمت . ويجوز أن يكون المعنى : وهو يطعم تارة لا يطعم أخرى على حسب المصالح كقوله : وهو يعطي ويمنع ، ويبسط ويقدر ، ويغني ويفقر .

واعلم أن المذكور في صدر الآية هو المنع من اتخاذ غير الله تعالى وليا . واحتج عليه بأنه فاطر السماوات والأرض وبأنه يطعم ولا يطعم . ومتى كان الأمر كذلك امتنع اتخاذ غيره وليا . أما بيان أنه فاطر السماوات والأرض ، فلأنا بينا أن ما سوى الواحد ممكن لذاته ، والممكن لذاته لا يقع موجودا إلا بإيجاد غيره ، فنتج أن ما سوى الله فهو حاصل بإيجاده وتكوينه . فثبت أنه سبحانه هو الفاطر لكل ما سواه من الموجودات . وأما بيان أنه يطعم ولا يطعم فظاهره لأن الإطعام عبارة عن إيصال المنافع ، وعدم الاستطعام عبارة عن عدم الانتفاع . ولما كان هو المبدئ تعالى وتقدس لكل ما سواه ، كان لا محالة هو المبدئ لحصول جميع المنافع . ولما كان واجبا لذاته كان لا محالة غنيا ومتعاليا عن الانتفاع بشيء آخر فثبت بالبرهان صحة أنه تعالى فاطر السماوات والأرض ، وصحة أنه يطعم ولا يطعم ، وإذا ثبت هذا امتنع في العقل اتخاذ غيره وليا لأن ما سواه محتاج في ذاته وفي جميع صفاته وفي جميع ما تحت يده . والحق سبحانه هو الغني لذاته الجواد لذاته ، وترك الغني الجواد ، والذهاب إلى الفقير المحتاج ممنوع عنه في صريح العقل .

وإذا عرفت هذا فنقول : قد سبق في هذا الكتاب بيان أن الولي معناه الأصلي في اللغة : هو القريب . وقد ذكرنا وجوه الاشتقاقات فيه . فقوله { قل أغير الله أتخذ وليا } يمنع من القرب من غير الله تعالى . فهذا يقتضي تنزيه القلب عن الالتفات إلى غير الله تعالى ، وقطع العلائق عن كل ما سوى الله تعالى .

ثم قال تعالى : { قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم } والسبب أن النبي صلى الله عليه وسلم سابق أمته في الإسلام لقوله { وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين } ولقول موسى { سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين } .

ثم قال : { ولا تكونن من المشركين } ومعناه أمرت بالإسلام ونهيت عن الشرك .