واعلم أنه فرق بين أن يقال { أغير الله أتخذ وليا } وبين أن يقال : أتخذ غير الله وليا لأن الإنكار إنما حصل على اتخاذ غير الله وليا ، لا على اتخاذ الولي ، وقد عرفت أنهم يقدمون الأهم فالأهم الذي هم بشأنه أعنى فكأن قوله { قل أغير الله أتخذ وليا } أولى من العبارة الثانية ، ونظيره قوله تعالى : { أفغير الله تأمروني أعبد } وقوله تعالى : { الله أذن لكم } .
ثم قال { فاطر السماوات والأرض } وقرئ { فاطر السماوات } بالجر صفة الله وبالرفع على إضمار " هو " والنصب على المدح . وقرأ الزهري { فطر السماوات } وعن ابن عباس : ما عرفت { فاطر السماوات } حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر فقال أحدهما : أنا فطرتها أي ابتدأتها وقال ابن الأنباري : أصل الفطر شق الشيء عند ابتدائه ، فقوله { فاطر السماوات والأرض } يريد خالقهما ومنشئهما بالتركيب الذي سبيله أن يحصل فيه الشق والتأليف عند ضم الأشياء إلى بعض ، فلما كان الأصل الشق جاز أن يكون في حال شق إصلاح وفي حال أخرى شق إفساد . ففاطر السماوات من الإصلاح لا غير . وقوله { هل ترى من فطور } و{ إذا السماء انفطرت } من الإفساد ، وأصلهما واحد .
ثم قال تعالى : { وهو يطعم ولا يطعم } أي وهو الرازق لغيره ولا يرزقه أحد .
فإن قيل : كيف فسرت الاطعام بالرزق ؟ وقد قال تعالى : { ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون } والعطف يوجب المغايرة .
قلنا : لا شك في حصول المغايرة بينهما ، إلا أنه قد يحسن جعل أحدهما كناية عن الآخر لشدة ما بينهما من المقاربة والمقصود من الآية : أن المنافع كلها من عنده ، ولا يجوز عليه الانتفاع . وقرئ { ولا يطعم } بفتح الياء ، وروى ابن المأمون عن يعقوب { وهو يطعم ولا يطعم } على بناء الأول للمفعول والثاني للفاعل ، وعلى هذا التقدير : فالضمير عائد إلى المذكور في قوله { أغير الله } وقرأ الأشهب { وهو يطعم ولا يطعم } على بنائهما للفاعل . وفسر بأن معناه : وهو يطعم ولا يستطعم . وحكى الأزهري : أطعمت بمعنى استطعمت . ويجوز أن يكون المعنى : وهو يطعم تارة لا يطعم أخرى على حسب المصالح كقوله : وهو يعطي ويمنع ، ويبسط ويقدر ، ويغني ويفقر .
واعلم أن المذكور في صدر الآية هو المنع من اتخاذ غير الله تعالى وليا . واحتج عليه بأنه فاطر السماوات والأرض وبأنه يطعم ولا يطعم . ومتى كان الأمر كذلك امتنع اتخاذ غيره وليا . أما بيان أنه فاطر السماوات والأرض ، فلأنا بينا أن ما سوى الواحد ممكن لذاته ، والممكن لذاته لا يقع موجودا إلا بإيجاد غيره ، فنتج أن ما سوى الله فهو حاصل بإيجاده وتكوينه . فثبت أنه سبحانه هو الفاطر لكل ما سواه من الموجودات . وأما بيان أنه يطعم ولا يطعم فظاهره لأن الإطعام عبارة عن إيصال المنافع ، وعدم الاستطعام عبارة عن عدم الانتفاع . ولما كان هو المبدئ تعالى وتقدس لكل ما سواه ، كان لا محالة هو المبدئ لحصول جميع المنافع . ولما كان واجبا لذاته كان لا محالة غنيا ومتعاليا عن الانتفاع بشيء آخر فثبت بالبرهان صحة أنه تعالى فاطر السماوات والأرض ، وصحة أنه يطعم ولا يطعم ، وإذا ثبت هذا امتنع في العقل اتخاذ غيره وليا لأن ما سواه محتاج في ذاته وفي جميع صفاته وفي جميع ما تحت يده . والحق سبحانه هو الغني لذاته الجواد لذاته ، وترك الغني الجواد ، والذهاب إلى الفقير المحتاج ممنوع عنه في صريح العقل .
وإذا عرفت هذا فنقول : قد سبق في هذا الكتاب بيان أن الولي معناه الأصلي في اللغة : هو القريب . وقد ذكرنا وجوه الاشتقاقات فيه . فقوله { قل أغير الله أتخذ وليا } يمنع من القرب من غير الله تعالى . فهذا يقتضي تنزيه القلب عن الالتفات إلى غير الله تعالى ، وقطع العلائق عن كل ما سوى الله تعالى .
ثم قال تعالى : { قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم } والسبب أن النبي صلى الله عليه وسلم سابق أمته في الإسلام لقوله { وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين } ولقول موسى { سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين } .
ثم قال : { ولا تكونن من المشركين } ومعناه أمرت بالإسلام ونهيت عن الشرك .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.