مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{قُل لِّمَن مَّا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ قُل لِّلَّهِۚ كَتَبَ عَلَىٰ نَفۡسِهِ ٱلرَّحۡمَةَۚ لَيَجۡمَعَنَّكُمۡ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِ لَا رَيۡبَ فِيهِۚ ٱلَّذِينَ خَسِرُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ فَهُمۡ لَا يُؤۡمِنُونَ} (12)

قوله تعالى { قل لمن ما في السماوات والأرض قل لله كتب على نفسه الرحمة ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون }

في الآية مسائل :

المسألة الأولى : اعلم أن المقصود من تقرير هذه الآية تقرير إثبات الصانع ، وتقرير المعاد وتقرير النبوة . وبيانه أن أحوال العالم العلوي والسفلي يدل على أن جميع هذه الأجسام موصوفة بصفات كان يجوز عليها اتصافها بأضدادها ومقابلاتها ، ومتى كان كذلك ، فاختصاص كل جزء من الأجزاء الجسمانية بصفته المعينة لابد وأن يكون لأجل أن الصانع الحكيم القادر المختار خصه بتلك الصفة المعينة ، فهذا يدل على أن العالم مع كل ما فيه مملوك لله تعالى .

وإذا ثبت هذا ، ثبت كونه قادرا على الإعادة والحشر والنشر ، لأن التركيب الأول إنما حصل لكونه تعالى قادرا على كل الممكنات ، عالما بكل المعلومات ، وهذه القدرة والعلم يمتنع زوالهما ، فوجب صحة الاعادة ثانيا . وأيضا ثبت أنه تعالى ملك مطاع ، والملك المطاع من له الأمر والنهي على عبيده ، ولابد من مبلغ ، وذلك يدل على أن بعثة الأنبياء والرسل من الله تعالى إلى الخلق غير ممتنع . فثبت أن هذه الآية وافية بإثبات هذه المطالب الثلاثة . ولما سبق ذكر هذه المسائل الثلاثة ، ذكر الله بعدها هذه الآية لتكون مقررة لمجموع تلك المطالب من الوجه الذي شرحناه والله أعلم .

المسألة الثانية : قوله تعالى : { قل لمن ما في السموات والأرض } سؤال . وقوله { قل لله } جواب فقد أمره الله تعالى بالسؤال أولا ثم بالجواب ثانيا . وهذا ، إنما يحسن في الموضع الذي يكون الجواب قد بلغ في الظهور إلى حيث لا يقدر على إنكاره منكر ، ولا يقدر على دفعه دافع . ولما بينا أن آثار الحدوث والإمكان ظاهرة في ذوات جميع الأجسام وفي جميع صفاتها ، لا جرم كان الاعتراف بأنها بأسرها ملك لله تعالى وملك له ومحل تصرفه وقدرته لا جرم أمره بالسؤال أولا ثم بالجواب ثانيا ، ليدل ذلك على أن الإقرار بهذا المعنى مما لا سبيل إلى دفعه البتة . وأيضا فالقوم كانوا معترفين بأن كل العالم ملك لله ، وملكه وتحت تصرفه وقهره وقدرته بهذا المعنى كما قال : { ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله } ثم إنه تعالى لما بين بهذا الطريق كمال إلهيته وقدرته ونفاذ تصرفه في عالم المخلوقات بالكلية ، أردفه بكمال رحمته وإحسانه إلى الخلق فقال : { كتب على نفسه الرحمة } فكأنه تعالى قال : إنه لم يرض من نفسه بأن لا ينعم ولا بأن يعد بالأنعام ، بل أبدا ينعم وأبدا يعد في المستقبل بالإنعام ومع ذلك فقد كتب على نفسه ذلك وأوجبه إيجاب الفضل والكرم . واختلفوا في المراد بهذه الرحمة فقال بعضهم : تلك الرحمة هي أنه تعالى يمهلهم مدة عمرهم ويرفع عنهم عذاب الاستئصال ولا يعاجلهم بالعقوبة في الدنيا . وقيل إن المراد أنه كتب على نفسه الرحمة لمن ترك التكذيب بالرسل وتاب وأناب وصدقهم وقبل شريعتهم .

واعلم أنه جاءت الأخبار الكثيرة في سعة رحمة الله تعالى ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «لما فرغ الله من الخلق كتب كتابا أن رحمتي سبقت غضبي » .

فإن قيل : الرحمة هي إرادة الخير ، والغضب هو إرادة الانتقام ، وظاهر هذا الخبر يقتضي كون إحدى الإرادتين سابقة على الأخرى ، والمسبوق بالغير محدث ، فهذا يقتضي كون إرادة الله تعالى محدثة .

قلنا : المراد بهذا السبق سبق الكثرة لا سبق الزمان . وعن سلمان أنه تعالى لما خلق السماء والأرض خلق مائة رحمة ، كل رحمة ملء ما بين السماء والأرض ، فعنده تسع وتسعون رحمة ، وقسم رحمة واحدة بين الخلائق ، فبها يتعاطفون ويتراحمون ، فإذا كان آخر الأمر قصرها على المتقين .

أما قوله { ليجمعنكم إلى يوم القيامة } ففيه أبحاث : الأول : " اللام " في قوله { ليجمعنكم } لام قسم مضمر ، والتقدير : والله ليجمعنكم .

البحث الثاني : اختلفوا في أن هذا الكلام مبتدأ أو متعلق بما قبله . فقال بعضهم أنه كلام مبتدأ ، وذلك لأنه تعالى بين كمال إلهيته بقوله { قل لمن ما في السموات والأرض قل لله } ثم بين تعالى أنه يرحمهم في الدنيا بالامهال ودفع عذاب الاستئصال ، وبين أنه يجمعهم إلى يوم القيامة ، فقوله { كتب على نفسه الرحمة } أنه يمهلهم وقوله { ليجمعنكم إلى يوم القيامة } أنه لا يمهلهم بل يحشرهم ويحاسبهم على كل ما فعلوا .

والقول الثاني : أنع متعلق بما قبله والتقدير : كتب ربكم على نفسه الرحمة . وكتب ربكم على نفسه ليجمعنكم إلى يوم القيامة .

وقيل : أنه لما قال : { كتب ربكم على نفسه الرحمة } فكأنه قيل : وما تلك الرحمة ؟ فقيل : إنه تعالى { ليجمعنكم إلى يوم القيامة } وذلك لأنه لولا خوف العذاب يوم القيامة لحصل الهرج والمرج ولارتفع الضبط وكثر الخبط ، فصار التهديد بيوم القيامة من أعظم أسباب الرحمة في الدنيا ، فكان قوله { ليجمعنكم إلى يوم القيامة } كالتفسير لقوله { كتب ربكم على نفسه الرحمة } .

البحث الثالث : أن قوله { قل لمن ما في السموات والأرض قل لله } كلام ورد على لفظ الغيبة . وقوله { ليجمعنكم إلى يوم القيامة } كلام ورد على سبيل المخاطبة . والمقصود منه التأكيد في التهديد ، كأنه قيل : لما علمتم أن كل ما في السموات والأرض لله وملكه ، وقد علمتم أن الملك الحكيم لا يهمل أمر رعيته ولا يجوز في حكمته أن يسوي بين المطيع والعاصي وبين المشتغل بالخدمة والمعرض عنها ، فهلا علمتم أنه يقيم القيامة ويحضر الخلائق ويحاسبهم في الكل ؟

البحث الرابع : أن كلمة { إلى } في قوله { إلى يوم القيامة } فيها أقوال : الأول : أنها صلة والتقدير : ليجمعنكم يوم القيامة . وقيل : { إلى } بمعنى في أي ليجمعنكم في يوم القيامة .

وقيل : فيه حذف أي ليجمعنكم إلى المحشر في يوم القيامة ، لأن الجمع يكون إلى المكان لا إلى الزمان . وقيل : ليجمعنكم في الدنيا بخلقكم قرنا بعد قرن إلى يوم القيامة .

أما قوله { الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون } ففيه أبحاث : الأول : في هذه الآية قولان : الأول : أن قوله { الذين } موضعه نصب على البدل من الضمير في قوله { ليجمعنكم } والمعنى ليجمعن هؤلاء المشركين الذين خسروا أنفسهم وهو قول الأخفش . والثاني : وهو قول الزجاج ، أن قوله { الذين خسروا أنفسهم } رفع بالابتداء ، وقوله { فهم لا يؤمنون } خبره ، لأن قوله { ليجمعنكم } مشتمل على الكل ، على الذين خسروا أنفسهم وعلى غيرهم «والفاء » في قوله { فهم } يفيد معنى الشرط والجزاء ، كقولهم : الذي يكرمني فله درهم ، لأن الدرهم وجب بالإكرام فكان الإكرام شرطا والدرهم جزاء .

فإن قيل : ظاهر اللفظ يدل على أن خسرانهم سبب لعدم إيمانهم ، والأمر على العكس .

قلنا : هذا يدل على أن سبق القضاء بالخسران والخذلان ، هو الذي حملهم على الامتناع من الإيمان ، وذلك عين مذهب أهل السنة .