مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{أُوْلَـٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُۖ فَبِهُدَىٰهُمُ ٱقۡتَدِهۡۗ قُل لَّآ أَسۡـَٔلُكُمۡ عَلَيۡهِ أَجۡرًاۖ إِنۡ هُوَ إِلَّا ذِكۡرَىٰ لِلۡعَٰلَمِينَ} (90)

قوله تعالى : { أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده قل لا أسألكم عليه أجرا إن هو إلا ذكرى للعالمين } .

في الآية مسائل :

المسألة الأولى : لا شبهة في أن قوله : { أولئك الذين هدى الله } هم الذين تقدم ذكرهم من الأنبياء ، ولا شك في أن قوله : { فبهداهم اقتده } أمر لمحمد عليه الصلاة والسلام ، وإنما الكلام في تعيين الشيء الذي أمر الله محمدا أن يقتدي فيه بهم ، فمن الناس من قال : المراد أنه يقتدي بهم في الأمر الذي أجمعوا عليه ، وهو القول بالتوحيد والتنزيه عن كل ما لا يليق به في الذات والصفات والأفعال وسائر العقليات ، وقال آخرون : المراد الاقتداء بهم في جميع الأخلاق الحميدة والصفات الرفيعة الكاملة من الصبر على أذى السفهاء والعفو عنهم ، وقال آخرون : المراد الاقتداء بهم في شرائعهم إلا ما خصه الدليل ، وبهذا التقدير كانت هذه الآية دليلا على أن شرع من قبلنا يلزمنا ، وقال آخرون : إنه تعالى إنما ذكر الأنبياء في الآية المتقدمة ليبين أنهم كانوا محترزين عن الشرك مجاهدين بإبطاله بدليل أنه ختم الآية بقوله : { ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون } ثم أكد إصرارهم على التوحيد وإنكارهم للشرك بقوله : { فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين } .

ثم قال في هذه الآية : { أولئك الذين هدى الله } أي هداهم إلى إبطال الشرك وإثبات التوحيد { فبهداهم اقتده } أي اقتد بهم في نفي الشرك وإثبات التوحيد وتحمل سفاهات الجهال في هذا الباب . وقال آخرون : اللفظ مطلق فهو محمول على الكل إلا ما خصه الدليل المنفصل . قال القاضي : يبعد حمل هذه الآية على أمر الرسول بمتابعة الأنبياء عليهم السلام المتقدمين في شرائعهم لوجوه : أحدها : أن شرائعهم مختلفة متناقضة فلا يصح مع تناقضها أن يكون مأمورا بالاقتداء بهم في تلك الأحكام المتناقضة . وثانيها : أن الهدى عبارة عن الدليل دون نفس العمل .

وإذا ثبت هذا فنقول : دليل ثبات شرعهم كان مخصوصا بتلك الأوقات لا في غير تلك الأوقات . فكان الاقتداء بهم في ذلك الهدى هو أن يعلم وجوب تلك الأفعال في تلك الأوقات فقط ، وكيف يستدل بذلك على اتباعهم في شرائعهم في كل الأوقات ؟ وثالثها : أن كونه عليه الصلاة والسلام متبعا لهم في شرائعهم يوجب أن يكون منصبه أقل من منصبهم وذلك باطل بالإجماع ، فثبت بهذه الوجوه أنه لا يمكن حمل هذه الآية على وجوب الاقتداء بهم في شرائعهم .

والجواب عن الأول : أن قوله : { فبهداهم اقتده } يتناول الكل . فأما ما ذكرتم من كون بعض الأحكام متناقضة بحسب شرائعهم . فنقول : ذلك العام يجب تخصيصه في هذه الصورة فيبقى فيما عداها حجة .

وعن الثاني : أنه عليه الصلاة والسلام لو كان مأمورا بأن يستدل بالدليل الذي استدل به الأنبياء المتقدمون لم يكن ذلك متابعة ، لأن المسلمين لما استدلوا بحدوث العالم على وجود الصانع لا يقال : إنهم متبعون لليهود والنصارى في هذا الباب ، وذلك لأن المستدل بالدليل يكون أصيلا في ذلك الحكم ، ولا تعلق له بمن قبله البتة ، والاقتداء والاتباع لا يحصل إلا إذا كان فعل الأول سببا لوجوب الفعل على الثاني ، وبهذا التقرير يسقط السؤال .

وعن الثالث : أنه تعالى أمر الرسول بالاقتداء بجميعهم في جميع الصفات الحميدة والأخلاق الشريفة ، وذلك لا يوجب كونه أقل مرتبة منهم ، بل يوجب كونه أعلى مرتبة من الكل على ما سيجيء تقريره بعد ذلك إن شاء الله تعالى ، فثبت بما ذكرنا دلالة هذه الآية على أن شرع من قبلنا يلزمنا .

المسألة الثانية : احتج العلماء بهذه الآية على أن رسولنا صلى الله عليه وسلم أفضل من جميع الأنبياء عليهم السلام ، وتقريره : هو أنا بينا أن خصال الكمال ، وصفات الشرف كانت مفرقة فيهم بأجمعهم ، فداود وسليمان كانا من أصحاب الشكر على النعمة ، وأيوب كان من أصحاب الصبر على البلاء ويوسف كان مستجمعا لهاتين الحالتين . وموسى عليه السلام كان صاحب الشريعة القوية القاهرة والمعجزات الظاهرة ، وزكريا ، ويحيى ، وعيسى ، وإلياس ، كانوا أصحاب الزهد ، وإسماعيل كان صاحب الصدق ، ويونس صاحب التضرع ، فثبت أنه تعالى إنما ذكر كل واحد من هؤلاء الأنبياء لأن الغالب عليه كان خصلة معينة من خصال المدح والشرف ، ثم أنه تعالى لما ذكر الكل أمر محمدا عليه الصلاة والسلام بأن يقتدي بهم بأسرهم ، فكان التقدير كأنه تعالى أمر محمدا صلى الله عليه وسلم أن يجمع من خصال العبودية والطاعة كل الصفات التي كانت مفرقة فيهم بأجمعهم ولما أمره الله تعالى بذلك ، امتنع أن يقال : إنه قصر في تحصيلها ، فثبت أنه حصلها ، ومتى كان الأمر كذلك ، ثبت أنه أفضل منهم بكليتهم . والله أعلم .

المسألة الثالثة : قال الواحدي : قوله : { هدى الله } دليل على أنهم مخصوصون بالهدى ، لأنه لو هدى جميع المكلفين لم يكن لقوله : { أولئك الذين هدى الله } فائدة تخصيص .

المسألة الرابعة : قال الواحدي : الاقتداء في اللغة إتيان الثاني بمثل فعل الأول لأجل أنه فعله . روى اللحياني عن الكسائي أنه قال : يقال لي بك قدوة وقدوة .

المسألة الخامسة : قال الواحدي : قرأ ابن عامر { اقتده } بكسر الدال وبشم الهاء للكسر من غير بلوغ ياء ، والباقون { اقتده } ساكنة الهاء ، غير أن حمزة والكسائي يحذفانها في الوصل ويثبتانها في الوقف ، والباقون يثبتونها في الوصل والوقف .

والحاصل : أنه حصل الإجماع على إثباتها في الوقف . قال الواحدي : الوجه الإثبات في الوقف والحذف في الوصل ، لأن هذه الهاء هاء وقعت في السكت بمنزلة همزة الوصل في الابتداء ، وذلك لأن الهاء للوقف ، كما أن همزة الوصل للابتداء بالساكن ، فكما لا تثبت الهمزة حال الوصل ، كذلك ينبغي أن لا تثبت الهاء إلا أن هؤلاء الذين أثبتوا راموا موافقة المصحف ، فإن الهاء ثابتة في الخط فكرهوا مخالفة الخط في حالتي الوقف والوصل فأثبتوا . وأما قراءة ابن عامر : فقال أبو بكر ومجاهد : هذا غلط ، لأن هذه الهاء هاء وقف ، فلا تعرب في حال من الأحوال ، وإنما تذكر ليظهر بها حركة ما قبلها . قال أبو علي الفارسي : ليس بغلط ، ووجهها أن تجعل الهاء كناية عن المصدر ، والتقدير : فبهداهم اقتد الاقتداء ، فيضمر الاقتداء لدلالة الفعل عليه ، وقياسه إذا وقف أن تسكن الهاء ، لأن هاء الضمير تسكن في الوقف ، كما تقول : اشتره . والله أعلم .

أما قوله تعالى : { قل لا أسألكم عليه أجرا } فالمراد به أنه تعالى لما أمره بالاقتداء بهدى الأنبياء عليهم السلام المتقدمين ، وكان من جملة هداهم ترك طلب الأجر في إيصال الدين وإبلاغ الشريعة . لا جرم اقتدى بهم في ذلك ، فقال : { لا أسألكم عليه أجرا } ولا أطلب منكم مالا ولا جعلا { إن هو } يعني القرآن { إلا ذكرى للعالمين } يريد كونه مشتملا على كل ما يحتاجون إليه في معاشهم ومعادهم وقوله : { إن هو إلا ذكرى للعالمين } يدل على أنه صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى كل أهل الدنيا لا إلى قوم دون قوم . والله أعلم .