مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدۡرِهِۦٓ إِذۡ قَالُواْ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَىٰ بَشَرٖ مِّن شَيۡءٖۗ قُلۡ مَنۡ أَنزَلَ ٱلۡكِتَٰبَ ٱلَّذِي جَآءَ بِهِۦ مُوسَىٰ نُورٗا وَهُدٗى لِّلنَّاسِۖ تَجۡعَلُونَهُۥ قَرَاطِيسَ تُبۡدُونَهَا وَتُخۡفُونَ كَثِيرٗاۖ وَعُلِّمۡتُم مَّا لَمۡ تَعۡلَمُوٓاْ أَنتُمۡ وَلَآ ءَابَآؤُكُمۡۖ قُلِ ٱللَّهُۖ ثُمَّ ذَرۡهُمۡ فِي خَوۡضِهِمۡ يَلۡعَبُونَ} (91)

قوله تعالى : { وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون } .

اعلم أنا ذكرنا في هذا الكتاب أن مدار أمر القرآن على إثبات التوحيد والنبوة والمعاد . وأنه تعالى لما حكى عن إبراهيم عليه السلام أنه ذكر دليل التوحيد ، وإبطال الشرك ، وقرر تعالى ذلك الدليل بالوجوه الواضحة شرع بعده في تقرير أمر النبوة ، فقال : { وما قدروا الله حق قدره } حيث أنكروا النبوة والرسالة ، فهذا بيان وجه نظم هذه الآيات وأنه في غاية الحسن . وفي الآية مسائل :

المسألة الأولى : في تفسير قوله تعالى : { ما قدروا الله حق قدره } وجوه : قال ابن عباس : ما عظموا الله حق تعظيمه . وروي عنه أيضا أنه قال معناه : ما آمنوا إن الله على كل شيء قدير . وقال أبو العالية : ما وصفوه حق صفته . وقال الأخفش : ما عرفوه حق معرفته ، وحقق الواحدي رحمه الله ذلك ، فقال يقال : قدر الشيء إذا سبره وحرره ، وأراد أن يعلم مقداره يقدره بالضم قدرا ومنه قوله عليه السلام : «وإن غم عليكم فاقدروا له » أي فاطلبوا أن تعرفوه هذا أصله في اللغة ، ثم قال يقال لمن عرف شيئا هو يقدر قدره ، وإذا لم يعرفه بصفاته أنه لا يقدر قدره ، فقوله : { وما قدروا الله حق قدره } صحيح في كل المعاني المذكورة .

المسألة الثانية : أنه تعالى لما حكى عنهم { أنهم ما قدروا الله حق قدره } بين السبب فيه ، وذلك هو قولهم ما أنزل الله علي بشر من شيء .

واعلم أن كل من أنكر النبوة والرسالة فهو في الحقيقة ما عرف الله حق معرفته ، وتقريره من وجوه : الأول : أن منكر البعثة والرسالة إما أن يقول : إنه تعالى ما كلف أحدا من الخلق تكليفا أصلا ، أو يقول : إنه تعالى كلفهم التكاليف ، والأول باطل ، لأن ذلك يقتضي أنه تعالى أباح لهم جميع المنكرات والقبائح نحو شتم الله ، ووصفه بما لا يليق به ، والاستخفاف بالأنبياء والرسل وأهل الدين ، والإعراض عن شكر المنعم ، ومقابلة الإنعام بالإساءة . ومعلوم أن كل ذلك باطل . وإما أن يسلم أنه تعالى كلف الخلق بالأوامر والنواهي ، فههنا لا بد من مبلغ وشارع ومبين ، وما ذاك إلا الرسول .

فإن قيل : لم لا يجوز أن يقال : العقل كاف في إيجاب الواجبات واجتناب المقبحات ؟

قلنا : هب أن الأمر كما قلتم . إلا أنه لا يمتنع تأكيد التعريف العقلي بالتعريفات المشروعة على ألسنة الأنبياء والرسل عليهم السلام . فثبت أن كل من منع البعثة والرسالة فقد طعن في حكمة الله تعالى . وكان ذلك جهلا بصفة الإلهية ، وحينئذ يصدق في حقه قوله تعالى : { وما قدروا الله حق قدره } .

الوجه الثاني : في تقرير هذا المعنى أن من الناس من يقول إنه يمتنع بعثة الأنبياء والرسل ، لأنه يمتنع إظهار المعجزة على وفق دعواه تصديقا له ، والقائلون بهذا القول لهم مقامان :

المقام الأول : أن يقولوا إنه ليس في الإمكان خرق العادات ولا إيجاد شيء على خلاف ما جرت به العادة .

والمقام الثاني : الذين يسلمون إمكان ذلك . إلا أنهم يقولون إن بتقدير حصول هذه الأفعال الخارقة للعادات لا دلالة لها على صدق مدعي الرسالة ، وكلا الوجهين يوجب القدح في كمال قدرة الله تعالى .

أما المقام الأول : فهو أنه ثبت أن الأجسام متماثلة . وثبت أن ما يحتمله الشيء وجب أن يحتمله مثله ، وإذا كان كذلك كان جرم الشمس والقمر قابلا للتمزق والتفرق .

فإن قلنا : إن الإله غير قادر عليه كان ذلك وصفا له بالعجز ونقصان القدرة ، وحينئذ يصدق في حق هذا القائل : أنه ما قدر الله حق قدره .

وإن قلنا : إنه تعالى قادر عليه ، فحينئذ لا يمتنع عقلا انشقاق القمر ، ولا حصول سائر المعجزات .

وأما المقام الثاني : وهو أن حدوث هذه الأفعال الخارقة للعادة عند مدعي النبوة تدل على صدقهم ، فهذا أيضا ظاهر على ما هو مقرر في كتب الأصول . فثبت أن كل من أنكر إمكان البعثة والرسالة ، فقد وصف الله بالعجز ونقصان القدرة ، وكل من قال ذلك فهو ما قدر الله حق قدره .

والوجه الثالث : أنه لما ثبت حدوث العالم ، فنقول : حدوثه يدل على أن إله العالم قادر عالم حكيم ، وأن الخلق كلهم عبيده وهو مالك لهم على الإطلاق ، وملك له على الإطلاق ، والملك المطاع يجب أن يكون له أمر ونهي وتكليف على عباده ، وأن يكون له وعد على الطاعة ، ووعيد على المعصية ، وذلك لا يتم ولا يكمل إلا بإرسال الرسل ، وإنزال الكتب ، فكل من أنكر ذلك فقد طعن في كونه تعالى ملكا مطاعا ، ومن اعتقد ذلك فهو ما قدر الله حق قدره ، فثبت أن كل من قال ما أنزل الله علي بشر من شيء فهو ما قدر الله حق قدره .

المسألة الثالثة : في هذه الآية بحث صعب ، وهو أن يقال : هؤلاء الذين حكى الله عنهم أنهم قالوا : { ما أنزل الله على بشر من شيء } إما أن يقال : إنهم كفار قريش أو يقال إنهم أهل الكتاب من اليهود والنصارى ، فإن كان الأول ، فكيف يمكن إبطال قولهم بقوله تعالى : { قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى } وذلك لأن كفار قريش والبراهمة كما ينكرون رسالة محمد صلى الله عليه وسلم فكذلك ينكرون رسالة سائر الأنبياء ، فكيف يحسن إيراد هذا الإلزام عليهم ، وأما إن كان الثاني وهو أن قائل هذا القول قوم من اليهود والنصارى ، فهذا أيضا صعب مشكل ، لأنهم لا يقولون هذا القول ، وكيف يقولونه مع أن مذهبهم أن التوراة كتاب أنزله الله على موسى ، والإنجيل : كتاب أنزله الله على عيسى ؛ وأيضا فهذه السورة مكية ، والمناظرات التي وقعت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبين اليهود والنصارى كلها مدنية ، فكيف يمكن حمل هذه الآية عليها ، فهذا تقرير الإشكال القائم في هذه الآية . واعلم أن الناس اختلفوا فيه على قولين :

فالقول الأول : إن هذه الآية نزلت في حق اليهود وهو القول المشهور عند الجمهور . قال ابن عباس : إن مالك بن الصيف كان من أحبار اليهود ورؤسائهم ، وكان رجلا سمينا فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أنشدك الله الذي أنزل التوراة على موسى هل تجد فيها إن الله يبغض الحبر السمين وأنت الحبر السمين وقد سمنت من الأشياء التي تطعمك اليهود ) فضحك القوم ، فغضب مالك بن الصيف ، ثم التفت إلى عمر فقال : ما أنزل الله على بشر من شيء . فقال له قومه : ويلك ما هذا الذي بلغنا عنك ؟ فقال : إنه أغضبني ، ثم إن اليهود لأجل هذا الكلام عزلوه عن رياستهم ، وجعلوا مكانه كعب بن الأشرف ، فهذا هو الرواية المشهورة في سبب نزول هذه الآية ، وفيها سؤالات :

السؤال الأول : اللفظ وإن كان مطلقا بحسب أصل اللغة إلا أنه قد يتقيد بحسب العرف . ألا ترى أن المرأة إذا أرادت أن تخرج من الدار فغضب الزوج ، وقال : إن خرجت من الدار فأنت طالق ، فإن كثيرا من الفقهاء . قالوا : اللفظ وإن كان مطلقا إلا أنه بحسب العرف يتقيد لتلك المرأة فكذا ههنا قوله : { ما أنزل الله على بشر من شيء } وإن كان مطلقا بحسب أصل اللغة ، إلا أنه بحسب العرف يتقيد بتلك الواقعة فكان قوله : { ما أنزل الله على بشر من شيء } مراده منه أنه ما أنزل الله على بشر من شيء في أنه يبغض الحبر السمين ، وإذا صار هذا المطلق محمولا على هذا المقيد لم يكن قوله : { من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى } مبطلا لكلامه ، فهذا أحد السؤالات :

السؤال الثاني : أن مالك بن الصيف كان مفتخرا بكونه يهوديا متظاهرا بذلك ومع هذا المذهب ألبتة أن يقول : ما أنزل الله على بشر من شيء إلا على سبيل الغضب المدهش للعقل أو على سبيل لا يمكنه طغيان اللسان ، ومثل هذا الكلام لا يليق بالله سبحانه وتعالى إنزال القرآن الباقي على وجه الدهر في إبطاله .

والسؤال الثالث : أن الأكثرين اتفقوا على أن هذه السورة مكية وأنها أنزلت دفعة واحدة ، ومناظرات اليهود مع الرسول عليه الصلاة والسلام كانت مدنية ، فكيف يمكن حمل هذه الآية على تلك المناظرة ؟ وأيضا لما نزلت السورة دفعة واحدة ، فكيف يمكن أن يقال : هذه الآية المعينة إنما نزلت في الواقعة الفلانية ؟ فهذه هي السؤالات الواردة على هذا القول ، والأقرب عندي أن يقال : لعل مالك بن الصيف لما تأذى من هذا الكلام طعن في نبوة الرسول عليه الصلاة والسلام وقال : ما أنزل الله عليك شيئا ألبتة ، ولست رسولا من قبل الله ألبتة ، فعند هذا الكلام نزلت هذه الآية ، والمقصود منها أنك لما سلمت أن الله تعالى أنزل التوراة على موسى عليه السلام ، فعند هذا لا يمكنك الإصرار على أنه تعالى ما أنزل علي شيئا لأني بشر وموسى بشر أيضا ، فلما سلمت أن الله تعالى أنزل الوحي والتنزيل على بشر امتنع عليك أن تقطع وتجزم بأنه ما أنزل الله علي شيئا ، فكان المقصود من هذه الآية بيان أن الذي ادعاه محمد عليه الصلاة والسلام ليس من قبيل الممتنعات ، وأنه ليس للخصم اليهودي أن يصر على إنكاره ، بل أقصى ما في الباب أن يطالبه بالمعجز فإن أتى به فهو المقصود ، وإلا فلا فإما أن يصر اليهودي على أنه تعالى ما أنزل على محمد شيئا ألبتة مع أنه معترف بأن الله تعالى أنزل الكتاب على موسى ، فذاك محض الجهالة والتقليد ، وبهذا التقدير يظهر الجواب عن السؤالين الأولين .

فأما السؤال الثالث : وهو قوله : هذه السورة مكية ونزلت دفعة واحدة وكل واحد من هذين الوجهين يمنع من القول بأن سبب نزول هذه الآية مناظرة اليهودي .

قلنا : القائلون بهذا القول قالوا : السورة كلها مكية ونزلت دفعة واحدة إلا هذه الآية ، فإنها نزلت بالمدينة في هذه الواقعة ، فهذا منتهى الكلام في تقرير هذا الوجه .

والقول الثاني : أن قائل هذا القول أعني ما أنزل الله على بشر من شيء قوم من كفار قريش فهذا القول قد ذكره بعضهم .

بقي أن يقال : كفار قريش ينكرون نبوة جميع الأنبياء عليهم السلام ، فكيف يمكن إلزام نبوة موسى عليهم ؟ وأيضا فما بعد هذه الآية لا يليق بكفار قريش ، وإنما يليق باليهود وهو قوله : { تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم } فمن المعلوم بالضرورة أن هذه الأحوال لا تليق إلا باليهود ، وهو قول من يقول : إن أول الآية خطاب مع الكفار ، وآخرها خطاب مع اليهود فاسد ، لأنه يوجب تفكيك نظم الآية وفساد تركيبها ، وذلك لا يليق بأحسن الكلام فضلا عن كلام رب العالمين ، فهذا تقرير الإشكال على هذا القول .

أما السؤال الأول : فيمكن دفعه بأن كفار قريش كانوا مختلطين باليهود والنصارى وكانوا قد سمعوا من الفريقين على سبيل التواتر ظهور المعجزات القاهرة على يد موسى عليه السلام مثل انقلاب العصا ثعبانا ، وفلق البحر وإظلال الجبل وغيرها والكفار كانوا يطعنون في نبوة محمد عليه الصلاة والسلام بسبب أنهم كانوا يطلبون منه أمثال هذه المعجزات وكانوا يقولون لو جئتنا بأمثال هذه المعجزات لآمنا بك ، فكان مجموع هذه الكلمات جاريا مجرى ما يوجب عليهم الاعتراف بنبوة موسى عليه السلام ، وإذا كان الأمر كذلك لم يبعد إيراد نبوة موسى عليه السلام إلزاما عليهم في قولهم : { ما أنزل الله على بشر من شيء } .

وأما السؤال الثاني : فجوابه : أن كفار قريش واليهود والنصارى ، لما كانوا متشاركين في إنكار نبوة محمد عليه الصلاة والسلام لم يبعد أن يكون الكلام الواحد واردا على سبيل أن يكون بعضه خطابا مع كفار مكة وبقيته يكون خطابا مع اليهود والنصارى ، فهذا ما يحضرنا في هذا البحث الصعب ، وبالله التوفيق .

المسألة الرابعة : مذهب كثير من المحققين أن عقول الخلق لا تصل إلى كنه معرفة الله تعالى البتة ، ثم إن الكثير من أهل هذا المذهب يحتجون على صحته بقوله تعالى : { وما قدروا الله حق قدره } أي وما عرفوا الله حق معرفته ، وهذا الاستدلال بعيد ، لأنه تعالى ذكر هذه اللفظة في القرآن في ثلاثة مواضع ، وكلها وردت في حق الكفار فههنا ورد في حق اليهود أو كفار مكة ، وكذا القول في الموضعين الآخرين ، وحينئذ لا يبقى في هذا الاستدلال فائدة . والله أعلم .

المسألة الخامسة : في هذه الآية أحكام .

الحكم الأول

أن النكرة في موضع النفي تفيد العموم ، والدليل عليه هذه الآية فإن قوله : { ما أنزل الله على بشر من شيء } نكرة في موضع النفي ، فلو لم تفد العموم لما كان قوله تعالى : { قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى } إبطالا له ، ونقضا عليه ، ولو لم يكن كذلك لفسد هذا الاستدلال ، ولما كان ذلك باطلا ، ثبت أن النكرة في موضع النفي تعم . والله أعلم .

الحكم الثاني

النقض يقدح في صحة الكلام ، وذلك لأنه تعالى نقض قولهم : { ما أنزل الله على بشر من شيء } بقوله : { قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى } فلو لم يدل النقض على فساد الكلام لما كانت حجة الله مفيدة لهذا المطلوب .

واعلم أن قول من يقول : إبداء الفارق بين الصورتين يمنع من كون النقص مبطلا ضعيف ، إذ لو كان الأمر كذلك لسقطت حجة الله في هذه الآية لأن اليهودي كان يقول معجزات موسى أظهر ، وأبهر من معجزاتك ، فلم يلزم من إثبات النبوة هناك إثباتها هنا ، ولو كان الفرق مقبولا لسقطت هذه الحجة ، وحيث لا يجوز القول بسقوطها علمنا أن النقض على الإطلاق مبطل والله أعلم .

الحكم الثالث

تفلسف الغزالي فزعم أن هذه الآية مبنية على الشكل الثاني من الأشكال المنطقية ، وذلك لأن حاصله يرجع إلى أن موسى أنزل الله تعالى عليه شيئا وأحد من البشر ما أنزل الله عليه شيئا ينتج من الشكل الثاني : أن موسى ما كان من البشر ، وهذا خلف محال ، وليست هذه الاستحالة بحسب شكل القياس ، ولا بحسب صحة المقدمة الأولى ، فلم يبق إلا أنه لزم من فرض صحة المقدمة الثانية ، وهي قولهم : ما أنزل الله على بشر من شيء ، فوجب القول بكونها كاذبة ، فثبت أن دلالة هذه الآية على المطلوب ، إنما تصح عند الاعتراف بصحة الشكل الثاني من الأشكال المنطقية ، وعند الاعتراف بصحة قياس الخلف . والله أعلم .

واعلم أنه تعالى لما قال : { قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى } وصف بعده كتاب موسى بالصفات .

فالصفة الأولى : كونه نورا وهدى للناس .

واعلم أنه تعالى سماه نورا تشبيها له بالنور الذي به يبين الطريق .

فإن قالوا : فعلى هذا التفسير لا يبقى بين كونه نورا وبين كونه هدى للناس فرق ، وعطف أحدهما على الآخر يوجب التغاير .

قلنا : النور له صفتان : إحداهما : كونه في نفسه ظاهرا جليا ، والثانية : كونه بحيث يكون سببا لظهور غيره ، فالمراد من كونه نورا وهدى هذان الأمران .

واعلم أنه تعالى وصف القرآن أيضا بهذين الوصفين في آية أخرى ، فقال : { ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا } .

الصفة الثانية : قوله : { تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا } وفيه مسائل :

المسألة الأول : قرأ أبو عمرو وابن كثير { يجعلونه } على لفظ الغيبة ، وكذلك يبدونها ويخفون لأجل أنهم غائبون ويدل عليه قوله تعالى : { وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء } فلما وردت هذه الألفاظ على لفظ المغايبة ، فكذلك القول في البواقي ، ومن قرأ بالتاء على الخطاب ، فالتقدير : قل لهم تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا ، والدليل عليه قوله تعالى : { وعلمتم ما لم تعلموا } فجاء على الخطاب ، فكذلك ما قبله .

المسألة الثانية : قال أبو علي الفارسي : قوله : { تجعلونه قراطيس } أي يجعلونه ذات قراطيس . أي يودعونه إياها .

فإن قيل : إن كل كتاب فلا بد وأن يودع في القراطيس ، فإذا كان الأمر كذلك في كل الكتب ، فما السبب ، في أن حكى الله تعالى هذا المعنى في معرض الذم لهم .

قلنا : الذم لم يقع على هذا المعنى فقط ، بل المراد أنهم لما جعلوه قراطيس ، وفرقوه وبعضوه ، لا جرم قدروا على إبداء البعض ، وإخفاء البعض ، وهو الذي فيه صفة محمد عليه الصلاة والسلام .

فإن قيل : كيف يقدرون على ذلك مع أن التوراة كتاب وصل إلى أهل المشرق والمغرب ، وعرفه أكثر أهل العلم وحفظوه ، ومثل هذا الكتاب لا يمكن إدخال الزيادة والنقصان فيه ، والدليل عليه أن الرجل في هذا الزمان لو أراد إدخال الزيادة والنقصان في القرآن لم يقدر عليه ، فكذا القول في التوراة .

قلنا : قد ذكرنا في سورة البقرة أن المراد من التحريف تفسير آيات التوراة بالوجوه الباطلة الفاسدة كما يفعله المبطلون في زماننا هذا بآيات القرآن .

فإن قيل : هب أنه حصل في التوراة آيات دالة على نبوة محمد عليه الصلاة والسلام . إلا أنها قليلة ، والقوم ما كانوا يخفون من التوراة إلا تلك الآيات ، فلم قال : ويخفون كثيرا .

قلنا : القوم كما يخفون الآيات الدالة على نبوة محمد عليه الصلاة والسلام ، فكذلك يخفون الآيات المشتملة على الأحكام ، ألا ترى أنهم حاولوا على إخفاء الآية المشتملة على رجم الزاني المحصن .

الصفة الثالثة : قوله : { وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم } والمراد أن التوراة كانت مشتملة على البشارة بمقدم محمد واليهود قبل مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يقرؤون تلك الآيات وما كانوا يفهمون معانيها ، فلما بعث الله محمدا ظهر أن المراد من تلك الآيات هو مبعثه صلى الله عليه وسلم ، فهذا هو المراد من قوله : { وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم } .

واعلم أنه تعالى لما وصف التوراة بهذه الصفات الثلاث ، قال : { قل الله } والمعنى أنه تعالى قال في أول الآية : { قل من أنزل الكتاب } الذي صفته كذا وكذا فقال بعده : { قل الله } والمعنى أن العقل السليم والطبع المستقيم يشهد بأن الكتاب الموصوف بالصفات المذكورة المؤيد قول صاحبه بالمعجزات القاهرة الباهرة مثل معجزات موسى عليه السلام لا يكون إلا من الله تعالى ، فلما صار هذا المعنى ظاهرا بسبب ظهور الحجة القاطعة ، لا جرم قال تعالى لمحمد قل المنزل لهذا الكتاب هو الله تعالى ، ونظيره قوله : { قل أي شيء أكبر شهادة قل الله } وأيضا أن الرجل الذي حاول إقامة الدلالة على وجود الصانع يقول من الذي أحدث الحياة بعد عدمها ، ومن الذي أحدث العقل بعد الجهالة ، ومن الذي أودع في الحدقة القوة الباصرة ، وفي الصماخ القوة السامعة ، ثم إن ذلك القائل نفسه يقول { الله } والمقصود أنه بلغت هذه الدلالة والبينة إلى حيث يجب على كل عاقل أن يعترف بها فسواء أقر الخصم به أو لم يقر فالمقصود حاصل فكذا ههنا .

ثم قال تعالى بعده : { ثم ذرهم في خوضهم يلعبون } وفيه مسألتان :

المسألة الأولى : المعنى أنك إذا أقمت الحجة عليهم وبلغت في الأعذار والأنذار وهذا المبلغ العظيم فحينئذ لم يبق عليك من أمرهم شيء ألبتة ، ونظيره قوله تعالى : { إن عليك إلا البلاغ } .

المسألة الثانية : قال بعضهم هذه الآية منسوخة بآية السيف وهذا بعيد لأن قوله { ثم ذرهم في خوضهم يلعبون } مذكور لأجل التهديد ، وذلك لا ينافي حصول المقاتلة ، فلم يكن ورود الآية الدالة على وجوب المقاتلة ، رافعا لشيء من مدلولات هذه الآية ، فلم يحصل النسخ فيه . والله أعلم .