مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى ٱلۡغَضَبُ أَخَذَ ٱلۡأَلۡوَاحَۖ وَفِي نُسۡخَتِهَا هُدٗى وَرَحۡمَةٞ لِّلَّذِينَ هُمۡ لِرَبِّهِمۡ يَرۡهَبُونَ} (154)

قوله تعالى : { ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح وفي نسختها هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون }

اعلم أنه تعالى لما بين لنا ما كان منه مع الغضب بين في هذه الآية ما كان منه عند سكوت الغضب .

وفي الآية مسائل :

المسألة الأولى : في قوله : { سكت عن موسى الغضب } أقوال :

القول الأول : أن هذا الكلام خرج على قانون الاستعارة كأن الغضب كان يقويه على ما فعل ويقول له : قل لقومك كذا وكذا ، وألق الألواح وخذ برأس أخيك إليك ، فلما زال الغضب ، صار كأنه سكت .

والقول الثاني : وهو قول عكرمة ، أن المعنى : سكت موسى عن الغضب وقلب كما قالوا : أدخلت القلنسوة في رأسي ، والمعنى : أدخلت رأسي في القلنسوة .

القول الثالث : المراد بالسكوت السكون والزوال ، وعلى هذا جاز { سكت عن موسى الغضب } ولا يجوز صمت لأن { سكت } بمعنى سكن ، وأما صمت فمعناه سد فاه عن الكلام ، وذلك لا يجوز في الغضب .

المسألة الثانية : ظاهر الآية يدل على أنه عليه السلام لما عرف أن أخاه هرون لم يقع منه تقصير وظهر له صحة عذره ، فعند ذلك سكن غضبه . وهو الوقت الذي قال فيه : { رب اغفر لي ولأخي } وكما دعا لأخيه منبها بذلك على زوال غضبه ، لأن ذلك أول ما تقدم من أمارات غضبه على ما فعله من الأمرين ، فجعل ضد ذينك الفعلين كالعلامة لسكون غضبه .

المسألة الثالثة : قوله : { أخذ الألواح } المراد منه الألواح المذكورة في قوله تعالى : { وألقى الألواح } وظاهر هذا يدل على أن شيئا منها لم ينكسر ولم يبطل . وأن الذي قيل من أن ستة أسباع التوراة رفعت إلى السماء ليس الأمر كذلك وقوله : { وفي نسختها } النسخ ، عبارة عن النقل والتحويل فإذا كتبت كتابا عن كتاب حرفا بعد حرف ، قلت : نسخت ذلك الكتاب ، كأنك نقلت ما في الأصل إلى الكتاب الثاني . قال ابن عباس : لما ألقى موسى عليه السلام الألواح تكسرت فصام أربعين يوما ، فأعاد الله تعالى الألواح وفيها عين ما في الأولى ، فعلى هذا قوله : { وفي نسختها } أي وفيما نسخ منها . وأما إن قلنا إن الألواح لم تتكسر وأخذها موسى بأعيانها بعد ما ألقاها ، ولا شك أنها كانت مكتوبة من اللوح المحفوظ فهي أيضا تكون نسخا على هذا التقدير وقوله : { هدى ورحمة } أي { هدى } من الضلالة { ورحمة } من العذاب { للذين هم لربهم يرهبون } يريد الخائفين من ربهم .

فإن قيل : التقدير للذين يرهبون ربهم فما الفائدة في اللام في قوله : { لربهم } .

قلنا فيه وجوه : الأول : أن تأخير الفعل عن مفعوله يكسبه ضعفا فدخلت اللام للتقوية ، ونظيره قوله : { للرؤيا تعبرون } الثاني : أنها لام الأجل والمعنى : للذين هم لأجل ربهم يرهبون لا رياء ولا سمعة . الثالث : أنه قد يزاد حرف الجر في المفعول ، وإن كان الفعل متعديا كقولك قرأت في السورة وقرأت السورة ، وألقى يده وألقى بيده ، وفي القرآن { ألم يعلم بأن الله يرى } وفي موضع آخر { ويعلمون أن الله } فعلى هذا قوله { لربهم } اللام صلة وتأكيد كقوله : { ردف لكم } وقد ذكرنا مثل هذا في قوله : { ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم } .