فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى ٱلۡغَضَبُ أَخَذَ ٱلۡأَلۡوَاحَۖ وَفِي نُسۡخَتِهَا هُدٗى وَرَحۡمَةٞ لِّلَّذِينَ هُمۡ لِرَبِّهِمۡ يَرۡهَبُونَ} (154)

{ ولما سكت } وقرئ أسكت { عن موسى الغضب } أصل السكوت السكون والإمساك عن الشيء يقال جرى الوادي ثلاثا ثم سكت أي مسك وسكن عن الجري ، وقيل هذا مثل كأن الغضب كان يغريه على ما فعل ويقول له قل لقومك كذا وألق الألواح وجر برأس أخيك فترك الإغراء وسكت .

وقيل هذا الكلام فيه قلب ، والأصل سكت موسى عن الغضب كقولهم أدخلت الأصبع الخاتم والخاتم الأصبع ، وأدخلت القلنسوة رأسي ، ورأسي القلنسوة ، والأول أولى ، وبه قال أهل اللغة والتفسير وفيه مبالغة وبلاغة من حيث إنه جعل الغضب الحامل له على ما فعل كالآمر به والمغري عليه ، حتى عبر عن سكونه بالسكوت .

{ أخذ الألواح } التي ألقاها عند الغضب ، قال الرازي : وظاهر هذا يدل على أن الألواح لم تتكسر ولم يرفع من التوراة شيء { وفي نسختها } فعله بمعنى مفعولة كالخطبة ، والنسخ : نقل ما في كتاب إلى كتاب آخر ، ويقال للأصل الذي كان النقل منه نسخة وللمنقول نسخة أيضا ، قال القشيري : والمعنى أي فيما نسخ من الألواح المتكسرة ونقل إلى الألواح الجديدة ، وقيل المعنى وفيما نسخ له منها أي من اللوح المحفوظ وقيل المعنى وفيما كتب له فيها فلا يحتاج إلى أصل ينقل عنه ، وهذا كما يقال انسخ ما يقول فلان أي اثبته في كتابك .

{ هدى } أي يهتدون به من الأحكام { ورحمة } أي ما يحصل لهم من الله عند عملهم بما فيها من الرحمة الواسعة ، قال مجاهد : ولم يذكر التفصيل ههنا وقال ابن عباس : هدى من الضلالة ورحمة من العذاب { للذين هم } أي كائنة لهم أو لأجلهم واللام في { لربهم } للتقوية للفعل ، وقد صرح الكسائي بأنها زائدة وقال الأخفش : هي لام الأجل ، وقال المبرد : التقدير للذين هم رهبتهم لربهم { يرهبون } أي يخافون منه سبحانه{[785]} .


[785]:- قيل: هذا من تمام كلام موسى عليه السلام؛ أخبر الله عز وجل به عنه، وتمّ الكلام. ثم قال الله تعالى: "وكذلك نجزي المفترين"، وكان هذا القول من موسى عليه السلام قبل أن يتوب القوم بقتلهم أنفسهم، فإنهم لما تابوا وعفا الله عنهم بعد أن جرى القتل العظيم- كما تقدم بيانه في "البقرة" أخبرهم أن من مات قتيلا فهو شهيد، ومن بقي حيا فهو مغفور له. وقيل: كان ثم طائفة اشربوا في قلوبهم العجل، أي حبه، فلم يتوبوا، فهم المعنيون بقوله: "إن الذين اتخذوا العجل". وقيل: أرادوا من مات منهم قبل رجوع موسى من الميقات، وقيل: أراد الله أولادهم. وهو ما جرى على قريظة والنضير، أي سينال أولادهم. والله أعلم. {وكذلك نجزي المفترين} أي مثل ما فعلنا بهؤلاء نفعل بالمفترين. ذكره القرطبي في 7/ 292.