قوله : " وَلَمَّا سَكَتَ " السُّكُوتَ والسُّكَاتُ قطعُ الكلامِ ، وهو هنا استعارةٌ بديعة .
قال الزمخشريُّ{[16852]} : هذا مثلٌ كأنَ الغضبُّ كان يُغْريهِ على ما فعل ويقول له : قل لقومك كذا ، وألْقِ الألواحَ وخُذْ برأس أخيك إليك ، فترك النُّطق بذلك ، وترك الإغراء به ، ولم يستحسن هذه الكلمة ، ولمْ يَسْتفصِحْهَا كلُّ ذي طبع سليم وذوق صحيح إلاَّ لذلك ، ولأنَّهُ من قبيل شُعَب البلاغة ، وإلاَّ فما لقراءة معاوية بن قرة : ولمَّا سَكَنَ بالنُّونِ ، لا تجدُ النَّفس عندها شيئاً من تلك الهمزة وطرفاً من تلك الرَّوعة ؟
وقيل : شَبَّه جمود الغضب بانقطاع كلام المُتكلِّم .
قال يونسُ : " [ سال ] الوادي ثم سكت فهذا أيضاً استعارةٌ " .
وقال الزَّجَّاجُ : مصدر : سَكَتَ الغَضَبُ : السكتةُ ، ومصدر : سَكَتَ الرَّجلُ : السُّكُوتُ " وهو يقتضي أن يكون " سكت الغضبُ " فعلاً على حدته .
وقيل : هذا من باب القلب ، والأصلُ : ولما سكت موسى عن الغضب ، نحو : أدْخَلْتُ القَلَنْسُوةَ في رَأسِي ، أي : أدخلت رأسي في القلنسوة .
قاله عكرمةُ : وهذا ينبغي أن لا يجوز لعدم الاحتياج إليه ، مع ما في القلب من الخلافِ المُتقدِّم .
وقيل المُرادُ بالسُّكوت : السُّكون والزَّوال ، وعلى هذا جاز سَكَتَ عن مُوسَى الغَضَبُ ولا يجوزُ صمت ؛ لأن سَكَتَ بمعنى سكن ، وأما صَمَتَ بمعنى سدَّ فاه عن الكلام ، فلا يجوزُ في الغضب .
ظاهرُ الآية دلُّ على أنَّه - عليه الصلاة والسلام - لمَّا عرف أن أخاه هارون لم يقع منه تقصير وأظهر له صحة عذرة ، فحينئذ سكن غضبهُ ، وهو الوقت الذي قال فيه : { رَبِّ اغفر لِي وَلأَخِي } .
وقوله : " أخَذَ الألوَاحَ " ظاهر هذا يدلُّ على أن شيئاً منها لم ينكسر ، ولم يرفع منها ستة أسباعها كما نقل عن بعضهم .
وقوله : { وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى } هذه الجملة في محلِّ نصب على الحال من الألوَاح ، أو من ضمير مُوسَى والأوَّلُ أحسنُ . وهذا عبارةٌ عن النَّقْلِ والتَّحويل فإذا كتب كتاب عن كتاب حرف بعد حرف قلبت نُسخَةُ ذلك الكتاب ، كأنَّك نقلت ما في الأصل إلى الكتاب الثاني .
قال ابنُ عبَّاسٍ : لمَّا ألقَى موسى الألواح فتكسّرت صام أربعين يوماً ، فأعَادَ اللَّهُ الألواح وفيها نفس ما في الأولى{[16853]} ، فعلى هذا قوله " وفِي نُسْخَتِهَا " أي : " وفيما نسخ منها " وإن قلنا : الألواح لم تنكسر ، وأخذها موسى بأعيانها ؛ فلا شك أنَّها مكتوبة من اللَّوح المحفوظ فهي نسخ على هذا التقدير .
وقوله : " هُدىً ورَحْمَةٌ " أي : هدى من الضلالة ، ورحمة من العذاب .
قوله : " لِلَّذِين " متعلق بمحذوف ؛ لأنه صفةٌ لرَحْمَة أي : رحمة كائنة للَّذين ، يجوزُ أن تكون اللاَّم لامَ المفعول من أجله ، كأنَّه قيل : هُدىً ورحمةٌ لأجْلِ هؤلاء ، وهُمْ مبتدأ ويَرْهَبُونَ خبره ، والجملةُ صلة الموصول .
قوله : لِرَبِّهم يَرْهَبُونَ . في هذه اللاَّم أربعةُ أوجُهٍ : أحدها أنَّ اللاَّم مقوية للفعل لأنَّهُ لمَّا تقدَّم معمولُه ضَعُفَ فقوي باللاَّم كقوله : { إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ } [ يوسف : 43 ] وقد تقدَّم أنَّ اللاَّم تكونُ مقويةً حيث كان العاملُ مؤخراً أو فرعاً نحو : { فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ } [ هود : 107 ] ولا تُزَادُ في غير هذين إلا ضرورةً عند بعضهم ؛ كقول الشاعر : [ الوافر ]
ولمَّا أنْ تَواقَفْنَا قَليلاً *** أنَخْنَا لِلكَلاكِلِ فَارْتَمَيْنَا{[16854]}
أو في قليل عند آخرين ؛ كقوله تعالى : { رَدِفَ لَكُم } [ النمل : 72 ] .
والثاني : أنَّ اللاَّم لامُ العلَّةِ وعلى هذا فمفعولُ يَرْهَبُونَ محذوفٌ ، تقديره : يرهبون عقابه لأجله ، أي لأجل ربهم لا رياء ولا سمعة وهذا مذهب الأخفش .
الثالث : أنَّها متعلقةٌ بمصدرٍ محذوف ، تقديره : الذين هم رهبتهم لربهم .
وهو قول المُبَرِّدِ وهذا غيرُ جارٍ على قواعد البصريين ، لأنَّهُ يَلْزَمُ منه حذَفُ المصدر ، وإبقاءُ معموله ، وهو ممتنعٌ إلاَّ في شعرٍ ، وأيضاً فهو تقدير مخرج للكلام عن فصاحته .
الرابع : أنَّها متعلقةٌ بفعلٍ مُقَدِّرٍ أيضاً ، تقديره : يخشعون لربَّهم . ذكرهُ أبُو البقاء ، وهو أولى مِمَّا قبله .
وقال ابْنُ الخطيبِ : قد يزادُ حرفُ الجرِّ في المفعول ، وإن كان الفعل متعدياً ، كقوله : قرأتُ في السُّورة وقرأ السُّورة ، وألْقَى يَدَهُ " وألقى بيده " ، قال تعالى { أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ الله يرى } [ العلق : 4 ] فعلى هذا تكون هذه اللام صلةً وتأكيداً كقوله { رَدِفَ لَكُم } [ النمل : 72 ] ، وقد ذكروا مثل هذا في قوله : { وَلاَ تؤمنوا إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ } [ آل عمران : 73 ] .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.