اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{عَامِلَةٞ نَّاصِبَةٞ} (3)

قوله تعالى : { عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ } هذا في الدنيا ؛ لأن الآخرة ليست دار عمل ، فالمعنى : وجوه عاملة ناصبة في الدنيا خاشعة في الآخرة .

قال أهل اللغة : يقال للرجل إذا دأب في سيره : قد عمل يعمل عملاً ، ويقال للسحاب إذا دام برقُه : قد عمل يعمل عملاً .

وقوله : «ناصبةٌ » أي : تعبةٌ ، يقال : نَصِبَ - بالكسر - ينصبُ نصَباً : إذا تعب ونَصْباً أيضاً ، وأنصبه غيره .

قال ابنُ عباسٍ : هم الذين أنصبوا أنفسهم في الدنيا على معصية الله تعالى ، وعلى الكفر مثل عبدة الأوثان ، والرهبان ، وغيرهم ، ولا يقبل الله - تعالى - منهم إلاَّ ما كان خالصاً له{[59953]} .

وعن علي - رضي الله عنه - أنهم الخوارج الذين ذكرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : «تُحقِّرُونَ صَلاتكُمْ مَعَ صَلاتهِمْ ، وصِيامَكُمْ مَعَ صِيَامهِمْ ، وأعْمالَكُمْ مَعَ أعْمَالهِمْ ، يَمرقُونَ من الدِّينِ كما يَمْرقُ السَّهْمُ من الرميّة » الحديث{[59954]} .

وروى سعيد عن قتادة : «عاملةٌ ناصبةٌ » قال : تكبرت في الدنيا عن طاعة الله - عز وجل - ، فأعملها الله وأنصبها في النار ، بجر السلاسل الثِّقال ، وحمل الأغلال ، والوقوف حفاة عراة في العرصات في يوم كان مقداره خمسين ألف سنةٍ{[59955]} .

قال الحسن وسعيد بن جبير : لم تعمل لله في الدنيا ولم تنصب له ، فأعملها وأنصبها في جهنم .

وقرأ ابن كثير في رواية ، وابن محيصن وعيسى وحميد{[59956]} : «نَاصِبةٌ » بالنصب على الحال .

وقيل : على الذَّم .

والباقون : بالرفع ، على الصفة ، أو إضمار مبتدأ فيوقف على «خاشعة » .

ومن جعل المعنى : في الآخرة جاز أن يكون خبراً بعد خبر عن «وجوه » ، فلا يوقف على «خاشعة » [ وقيل : عاملة ناصبة أي : عاملة في الدنيا ناصبة في الآخرة ، وعلى هذا يحمل وجوه يومئذ عاملة في الدنيا ناصبة في الآخرة خاشعة ]{[59957]} .

وروى الحسن ، قال : لما قدم عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - «الشام » ، أتاه راهب ، شيخ كبير عليه سواد ، فلما رآه عمر - رضي الله عنه بكى فقيل : يا أمير المؤمنين ما يبكيك ؟ قال : هذا المسكين طلب أمراً فلم يصبه ورجا رجاءً فأخطأه وقرأ قوله تعالى : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ }{[59958]} .


[59953]:ذكره القرطبي في "تفسيره" (20/20).
[59954]:ينظر المصدر السابق، وتقدم تخريج الحديث.
[59955]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (12/551) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/572) وزاد نسبته إلى عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
[59956]:ينظر: المحرر الوجيز 5/472، والبحر المحيط 8/457، وزاد: عكرمة والسدي، والدر المصون 6/512.
[59957]:سقط من: ب.
[59958]:ذكره القرطبي في "تفسيره" (20/20) عن الحسن وبمعناه عن أبي عمران الجوني أخرجه الحاكم وعبد الرزاق وابن المنذر كما في "الدر المنثور" (6/573).