روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي  
{ءَاتُونِي زُبَرَ ٱلۡحَدِيدِۖ حَتَّىٰٓ إِذَا سَاوَىٰ بَيۡنَ ٱلصَّدَفَيۡنِ قَالَ ٱنفُخُواْۖ حَتَّىٰٓ إِذَا جَعَلَهُۥ نَارٗا قَالَ ءَاتُونِيٓ أُفۡرِغۡ عَلَيۡهِ قِطۡرٗا} (96)

{ ءاتُونِى زُبَرَ الحديد } جمع زبرة كغرف في غرفة وهي القطعة العظيمة ، وأصل الزبر الاجتماع ومنه زبرت الكتاب جمعت حروفه وزبرة الأسد لما اجتمع على كاهله من الشعر ، وأخرج الطشتس عن ابن عباس أن نافع بن الأزرق ساله عن { زُبَرَ الحديد } فقال : قطعة وأنشد قول كعب بن مالك :

تلظى عليهم حين شد حميها*** بزبر الحديد والحجارة شاجر

وطلب إيتاء الزبر لا ينافي أنه لم يقبل منهم شيئاً لأن المراد من الايتاء المأمور به الايتاء بالثمن أو مجرد لمناولة والايطال وإن كان ما آتوه له لا إعطاء ما هو لهم فهو معونة مطلوبة ، وعلى تسليم كون الايتاء بمعنى الإعطاء لا المناولة يقال : إن إعطاء الآلة للعمل لا يلزمه تملكها ولو تملكها لا يعد ذلك جعلاً فإنه إعطاء المال لا إعطاء مثل هذا ، ويبنىء عن أن المراد ليس الإعطاء قراءة أبي بكر عن عاصم { رَدْمًا ائتونى } [ الكهف : 95 ، 96 ] بكسر التنوين ووصل الهمزة من أتاه بكذا إذ جاء به له وعلى هذه القراءة نصب { زُبُراً } بنزع الخافض أي جيئوني بزبر الحديد وتخصيص زبر الحديد بالذكر دون الصخور والحطب ونحوهما لما أن الحاجة إليها أمس إذ هي الركن القوي في السد ووجودها أعز .

وقرأ الحسن { زُبُرِ } بضم الباء كالزاي { حتى إِذَا ساوى بَيْنَ الصدفين } في الكلام حذف أي فأتوه إياها فأخذ يبني شيئاً فشيئاً حتى إذا جعل ما بين جانبي الجبلين من البنيان مساوياً لهما في العلو فبين مفعول ساوى وفاعله ضمير ذي القرنين ، وقيل : الفاعل ضمير السد المفهوم من الكلام أي فاتوه إياها فأخذ يسد بها حتى إذا ساوى السد الفضاء الذي بين الصدفين ويفهم من ذلك مساواة السد في العلو للجبلين ، والصدف كما أشرنا إليه جانب الجبل وأصله على ما قيل : الميل ، ونقل في «الكشف » أنه لا يقال للمنفرد صدف حتى يصادفه الآخر ثم قال : فهو من الأسماء المتضايفة كالزوج وأمثاله ، وقال أبو عبيدة : هو كل بناء عظيم مرتفع ولا يخفي أنه ليس بالمراد هنا .

وزعم بعضهم أن المراد به هنا الجبل وهو خلاف ما عليه الجمهور ، وقرأ قتادة سوى من التسوية .

وقرأ ابن أبي أمية عن أبي بكر عن عاصم { سووى } بالبناء للمجهول ، وقرأ ابن كثير . وأبو عمرو . وابن عامر . والزهري . ومجاهد . والحسن { بَيْنَ الصدفين } بضم الصاد والدار وهي لغة حمير كما أن فتحهما في قراءة الأكثرين لغة تميم ، وقرأ أبو بكر . وابن محيصن . وأبو رجاء . وأبو عبد الرحمن { الصدفين } بضم فسكون .

وقرأ ابن جندب بفتح فسكون ، وروي ذلك عن قتادة ، وفي رواية أخرى عنه أنه قرأ بضم ففتح وهي قراءة أبان عن عاصم ، وقرأ الماجشون بفتح فضم .

{ قَالَ } للعملة { انفخوا } أي بالكيران في زبر الحديد الموضوعة بين الصدفين ففعلوا { حتى إِذَا جَعَلَهُ } أي جعل المنفوخ فيه { نَارًا } أي كالنار في الحرارة والهيئة فهو من التشبيه البليغ ، وإسناد الجعل المذكور إلى ذي القرنين مع أنه فعل الفعلة للتنبيه على أنه العمدة في ذلك وهم بمنزلة الآلة { قَالَ } الذين يتولون أمر النحاس من الإذابة وغيرها ، وقيل لأولئك النافخين قال لهم بعد أن نفخوا في ذلك حتى صار كالنار وتم ما أراده منهم أولاً { ءَاتُوني } من الذين يتولون أمر النحاس { اتُونِى أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً } أي آتوني قطراً أفرغ عليه قطراً فحذف من الأول لدلالة الثاني عليه ، وبه تمسك البصريون على أن إعمال الثاني في باب التنازع أولى إذ لو كان { قِطْراً } مفعول { ءاتُونِى } لأضمر مفعول { أَفْرِغْ } وحذفه وإن جاز لكونه فضلة إلا أنه يوقع في لبس .

والقطر كما أشرنا إليه النحاس المذاب وهو قول الأكثرين ، وقيل : الرصاص المذاب ، وقيل : الحديد المذاب وليس بذاك ، وقرأ الأعمش . وطلحة . وحمزة . وأبو بكر بخلاف عنه { ائتونى } بهمزة الوصل أي جيئوني كأنه يستدعيهم للإغاثة باليد عند الإفراغ ، وإسناد الإفراغ إلى نفسه للسر الذي وقفت عليه آنفاً ، وكذا الكلام في قوله { اجعل } وقوله : { سَاوِى } على أحد القولين .