قوله تعالى : { واذكر فِي الكتاب إِبْرَاهِيمَ } اعلم أنَّ منكرِي التوحيد الذين اثْبَتُوا معبُوداً سوى الله تعالى فريقان :
منهم : من أثبت معبُوداً غير الله تعالى حيًّا ، عاقلاً ، فاهماً ، وهم النصارى .
ومنهم : من أثبت معبُوداً غير الله ، جماداً ليس بحيّ ولا عاقلٍ ، وهم عبدةُ الأوثان .
والفريقان ، وإن اشتركا في الضَّلال ، إلاَّ أنَّ ضلال عبدة الأوثان أعظم ، فلمّا بيَّن الله تعالى ضلال الفريق الأوَّل ، تكلَّم في ضلال الفريق الثاني ، وهم عبدةُ الأوثان ؛ فقال : { واذكر فِي الكتاب } والواو في قوله : { واذكر } عطف على قوله { ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّآ } [ مريم : 2 ] كأنَّه لمَّا انتهت قصَّةُ زكريَّا ويحيى ، وعيسى -صلوات الله عليهم- قال : قد ذكرتُ حال زكريَّا ، فتذكر حال إبراهيم -صلواتُ الله عليه- وإنَّما أمره بالذِّكر لأنَّه -صلوات الله عليه- ما كان هُو ، ولا قومُه ، ولا أهل بلده مشتغلين بالتَّعليم ، ومطالعةِ الكتب ، فإذا أخبر عن هذه القصَّة ، كما كانت من غير زيادةٍ ، ولا نقصانٍ ، كان ذلك إخباراً عن الغَيْب ، ومُعْجِزاً [ قاهراً ]{[21629]} دالاَّ على نُبُوَّته ، وإنَّما ذكر الاعتبار بقصَّة إبراهيم -صلوات الله وسلامه عليه- لوجوه :
الأول : أنَّ إبراهيم -صلوات الله عليه وسلامه- كان أبا العرب ، وكانُوا مقرّين بعُلُوِّ شانه ، وطهارةِ دينه على ما قال تعالى { ملَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ } [ الحج : 78 ] ، وقال تعالى : { وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ } [ البقرة : 130 ] فكأنه تعالى قال للعرب : إنَّ كنتم مقلِّدين لآبائكم على قولكم { إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا على أُمَّةٍ } [ الزخرف : 23 ] فأشرفُ آبائكم وأعلاهُم قدراً هو إبراهيم -صلوات الله عليه- فقلِّدوه في ترك عبادةِ الأوثان ، وإن كُنتم [ مستدلين ]{[21630]} ، فانظروا في هذه الدَّلائل التي ذكرها إبراهيم -صلوات الله وسلامه عليه- لتعرفُوا فساد عبادةِ الأوثان ، وبالجملةُ : فاتَّبِعُوا إبراهيم ، إمَّا تقليداً ، أو استدلالاً .
الثاني : أنَّ كثيراً من الكُفَّار في زمان رسُول الله -صلوات الله عليه وسلامه- كانوا يقولون : نتركُ دين آبائنا ، وأجدادنا ؟ فذكر الله تعالى قصَّة إبراهيم -صلوات الله عليه وسلامه- و [ بيَّن ]{[21631]} أنه ترك دين أبيه ، وأبطل قوله بالدليل ، ورجَّح متابعة الدَّليل على متابعة أبيه .
الثالث : أنَّ كثيراً من الكُفَّار كانُوا يتمسَّكُون بالتقليد ، [ وينكِرُون ]{[21632]} الاستدلال ؛ كما حكى الله تعالى عنهم { قَالُواْ وَجَدْنَآ آبَآءَنَا لَهَا عَابِدِينَ } [ الأنبياء : 53 ] فحكى الله عن إبراهيم التَّمَسُّكَ بطريقة الاستدلال ؛ تنبيهاً للكُفَّار على سُقُوط طريقتهم ، ثُمَّ قال تعالى في صفة إبراهيم –صلوات الله وسلامه عليه-{ إنه كان صِدّيقا نبيا } ، والصديق مبالغة في الكثير الصِّدق ، القائم عليه ، يقال : رجلٌ خميرٌ ، وسكِّيرٌ للمولعِ بهذه الأفعال .
وقيل : هو الذي يكون كثير التصديق بالحقِّ ؛ حتَّى يصير مشهُوراً به ، والأول أولى ؛ لأنَِّ المصدِّق بالشيء لا يوصفُ بكونه صديقاً إلاَّ إذا كان صادقاً في ذلك التَّصديق ، فيعودُ الأمْرُ إلى الأوّل .
فإن قيل : أليس قد قال الله تعالى { والذين آمَنُواْ بالله وَرُسُلِهِ أولئك هُمُ الصديقون } [ الحديد : 19 ] فالجوابُ{[21633]} : المؤمنون بالله [ ورسله ]{[21634]} صادقُون في ذلك التَّصديق .
واعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم يجب أن يكون صادقاً في كُلِّ ما أخبر ؛ لأنَّ الله تعالى صدَّقه ، ومُصدَّق الله صادقٌ ؛ فلزم من هذا كونُ الرَّسُول صادقاً فيما يقوله ، ولأنَّ الرُّسُل شهداءُ الله على النَّاسِ ؛ لقوله تعالى : { وَجِئْنَا بِكَ على هؤلاء شَهِيداً } [ النساء : 41 ] والشَّهيد : إنَّما يقبلُ قوله ، إذا لم يكن كاذباً ؛ فإن قيل : فما قولكم في قول إبراهيم { بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ } [ الأنبياء : 63 ] و { إِنِّي سَقِيمٌ } [ الصافات : 89 ] .
فالجوابُ مشروحٌ في هذه الآياتِ ، وبينَّا أن شيئاً من ذلك ليس بكذبٍ ، ولمَّا ثبت أنَّ كُلَّ نبيٍّ يجب أن يكون صديقاً ، ولا يجبُ في كلِّ صدِّيقٍ أن يكون نبيًّا ؛ ظهر بهذا قربُ مرتبة الصِّدِّيق من مرتبة النبيِّ ، فلهذا انتقل من ذكر كونه صديقاً إلى ذكر كونه نبيًّا .
وأما النبيُّ : فمعناه : كونهُ رفيع القدر عند الله ، وعند النَّاس ، وأيُّ رفعةٍ أعلى من رفعةِ من جعله الله واسطةً بينه ، وبين عباده ، وقوله : { كَانَ صِدِّيقاً } معناه : صار ، وقيل : وجد صدِّيقاً نبيًّا ، أي : كان من أوَّل وجوده إلى انتهائه موصوفاً بالصدق والصِّيانة .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.