{ الله نُورُ السموات والأرض } النور في اللغة على ما قال ابن السكيت الضياء وهذا ظاهر في عدم الفرق بين النور والضياء ، وفرق بينهما جمع وإن كان إطلاق أحدهما على الآخر شائعاً فقال الإمام السهيلي في الروض في قول ورقة
: ويظهر في البلاد ضياء نور *** يقيم به البرية أن يموجا
إنه يوضح معنى النور والضياء وإن الضياء هو المنتشر عن النور والنور هو الأصل ، وفي التنزيل { فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ } [ البقرة : 17 ] { وَهُوَ الذي جَعَلَ الشمس ضِيَاء والقمر نُوراً } [ يونس : 5 ] لأن نور القمر لا ينتشر عنه ما ينتشر عن الشمس لا سيما في طرفي الشهر ، وقال الفلاسفة : الضياء ما يكون للشيء من ذاته والنور ما يفيض عليه من مقابلة المضىء وعلى هذا جاء فيما زعم إسلاميوهم قوله تعالى : { هُوَ الذي جَعَلَ الشمس ضِيَاء والقمر نُوراً } [ يونس : 5 ] فإن اختلاف تشكلات القمر بالقرب والبعد من الشمس مع خسوفه وقت حيلولة الأرض بينه وبينها دليل على أن نوره فائض عليه من مقابلتها ، وأنت تعلم أن في هذا مقالاً لعلماء الإسلام وقد قدمنا ما فيه في غير هذا المقام ، ولعل الأولى في وجه الفرق ما تقدم آنفاً في كلام السهيلي .
وذكر بعض المحققين أنه يعلم من كلامهم أن لكل من النور والضياء جهة أبلغية فجهة أبلغية النور كونه أصلاً ومبدأ للضياء وجهة أبلغية الضياء أن الإبصار بالفعل بمدخليته . وادعى بعضهم أن النور على الإطلاق أبلغ من الضياء للآية التي نحن فيها ، وفيه بحث يعلم إن شاء الله تعالى أثناء تفسيرها ، واعلم أن الفلاسفة اختلفوا في حقيقة النور فمنهم من زعم أنه أجسام صغار تنفصل عن المضىء وتتصل بالمستضىء وأبطل بعدة أوجه ، الأول : أنه لو كان جسماً متحركاً لكانت حركته طبيعية والحركة الطبيعية إلى جهة واحدة دون سائر الجهات لكن النور يقع على الجسم في كل جهة كانت له ، والثاني : أنه إذا دخل من كوة ثم سددناها دفعة فتلك الأجزاء النورانية إما أن تكون باقية في البيت فيلزم أن يكون البيت مستنيراً كما كان قبل السد وليس كذلك وإما أن تكون خارجة من الكوة قبل انسدادها وهو محال لأن السد كان سبب انقطاعها فلا بد أن يكون سابقاً عليه بالذات أو بالزمان وإما أن تكون غير باقية أصلاً فيلزم أن يكون تخلخل جسم بين جسمين موجباً انعدام أحدهما وهو معلوم الفساد ، والثالث : أن كون تلك الأجسام الصغار أنواراً إما أن يكون هو عين كونها أجساماً وهو باطل لأن المفهوم من النورية مغاير للمفهوم من الجسمية وإما أن يكون مغايراً لها بأن تكون تلك الأجسام حاملة لتلك الكيفية منفصلة من المضيء متصلة بالمستضيء فإن لم تكن تلك الأجسام محسوسة فهو ظاهر البطلان لأنها حينئذ كيف تكون واسطة لإحساس غيرها وإن كانت محسوسة كانت ساترة لما وراءها ويجب أنها كلما ازدادت اجتماعاً ازدادت ستراً لكن الأمر بالعكس فإن النور كلما ازداد قوة ازداد إظهاراً ، والرابع : أن الشمس إذا طلعت من الأفق يستنير وجه الأرض كله دفعه ومن البعيد أن تنتقل تلك الأجزاء من الفلك الرابع إلى وجه الأرض في تلك اللحفظة اللطيفة ، ولا يخفى حاله على القول باستحالة الخرق على الأفلاك ، والخامس : أن انفصال الأجزاء من الأجرام الكوكبية يستلزم الذبول والانتقاص وخلو مواضعها عن تمام مقدارها أو مقدار أجزائها أو كونها دائمة التحليل مع إيراد البدل عما يتحلل عن جرمها فتكون أجسامها أجساماً مستحيلة غذائية فاسدة وذلك محال في الفلكيات .
وتعقبها بعض متأخريهم بأنها في غاية الضعف أما الأول : فلأن كون النور جسماً لا يستلزم كونه متحركاً ولا كون حدوثه بالحركة بل هو مما يوجد دفعة بلا حركة ، وأما الثاني : فلقائل أن يقول : إن قيام المجعول بلا مادة إنما يكون بالفاعل الجاهل إياه مع اشتراط عدم الحجاب المانع عن الإفاضة فإذا طرأ المانع لم تقع الإفاضة فينعدم المفاض بلا مادة باقية عنه لأن وجوده لم يكن بشركة المادة فكذا عدمه فعند انسداد الباب المانع عن الإفاضة ينعدم الشعاع عن البيت دفعة ، ولا فرق في ذلك بين كونه عرضاً أو جوهراً والسر فيهما جميعاً أن النور مطلقاً ليس حصوله من جهة انفعال المادة وشركة الهيولي كسائر الجواهر والاعراض الانفعاليات ولذلك لا ينعدم شيء منها دفعة لو فرض حجاب بنيها وبين المبدأ الفاعلي إلا بعد زمان واستحالة . وأما الذي ذكر ثالثاً فجوابه أن المغايرة في المفهوم لا تنافي الاتحاد والعينية في الوجود فما ذكر مغالطة من باب الاشتباه بين مفهوم الشيء وحقيقته ، وأما المذكور رابعاً وخامساً فلأن مبناه على الانفصال والقطع للمسافة لا على مجرد الجوهرية والجسمية .
هذا وذهب بعضهم إلى أنه عرض من الكيفيات المحسوسة وقالوا : و غني عن التعريف كسائر المحسوسات ، وتعريفه بأنه كمال أول للشفاف من حيث أنه شفاف أو بأنه كيفية لا يتوقف الإبصار بها على الابصار بشيء آخر تعريف بما هو أخفى وكأن المراد به التنبيه على بعض خواصه . ومن هئلاء من قال : إنه نفس ظهور اللون ، ومنهم من قال بمغايرتهما واستدلوا بأوجه ، الأول : أن ظهور اللون إشارة إلى تجدد أمر فهو إما اللون أو صفة نسبية أو غير نسبية والأول باطل لأن النور إما أن يجعل عبارة عن تجدد اللون أو اللون المتجدد ، والأول : يقتضي أن لا يكون مستنيراً إلا في آن تجدده ، والثاني : يوجب كون الضوء نفس اللون فلا يبقى لقولهم : الضور هو ظهور اللون معنى ، وإن جعلوا الضوء كيفية ثبوتية زائدة على ذات اللون وسموه بالظهور فذلك نزاع لفظي ، وإن زعموا أن ذلك الظهور تجدد حالة نسبية فهو باطل لأن الضوء أمر غير نسبي وإلا لكان أمراً عقلياً واقعاً تحت مقولة المضاف فلم يكن محسوساً أصلاً لكن الحس البصري مما ينفعل عنه ويتضرر بالشديد منه حتى يبطل .
والأمور الذهنية لا تأثر مثل هذا التأثير فإذا لم يكن أمراً نسبياً لم يمكن تفسيره بالحالة النسبية ، الثاني : أن البياض قد يكون مضيئاً مشرقاً وكذا السواد فلو كان ضوء كل منهما عين ذاته لزم أن يكون بعض الضوء ضد بعضه وهو محال لأن ضد الضوء الظلمة ، والثالث : أن اللون يوجد بدون الضوء كما في الجسم الملون في الظلمة وكذا الضوء يوجد بدن اللون كما في البلور إذا وقع عليه الضوء فهما متغايران لوجود كل منهما بدون الآخر ، والرابع : أن الجسم الأحمر مثلاً لمضيء إذا انعكس عنه إلى مقابله فتارة ينعكس الضوء عنه إلى جسم آخر وتارة ينعكس منه اللون والضوء معاً إذا قوياً حتى يحمر المنعكس إليه فلو كان مجرد ظهور اللون لاستحال أن يفيد غيره لمعاناً ساذجاً ، وليس لقائل أن يقول : هذا البريق عبارة عن إظهار اللون في ذلك القابل لأنه يقال : فلماذا إذا اشتد لون الجسم المنعكس منه ضوؤه أخفى ضوء المنعكس إليه وأبطله وأعطاه لون نفسه .
وقال بعض المتأخرين : استقر الرأي على أن النور المحسوس بما هو محسوس عبارة عن نحو وجود الجوهر المبصر الحاضر عند النفس في غير هذا العالم وأما الذي في الخارج بإزائه فلا يزيد وجوده على وجود اللون والأوجه التي ذكرت لمغايرتهما مقدوحة ، أما الوجه الأول : فهو مقدوح بأن ظهور اللون عبارة عن وجوده وهو صفة حقيقية من شأنها أن ينسب ويضاف إلى القوة المدركة وبهذا الاعتبار يقع له التجدد قولهم : يوجب أن يكون الضوء نفس اللون قلنا : نعم ولكنهما متغايران بالاعتبار كما أن الماهية والوجود في كل شيء متحدان بالذات متغايران بالاعتبار فإن النور والضوء يرجع معناه إلى وجود خاص عارض لبعض الأجسام والظلمة عبارة عن عدم ذلك الوجود الخاص بالكلية والظل عبارة عن عدمه في الجملة واللون عبارة عن امتزاج يقع بين حامل هذا الوجود النوري وحامل عدمه على أنحاء مختلفة فليست الألوان إلا مراتب تراكيب الأنوار والأدلة الموردة على أبطال ذلك ضعيفة فعلى هذا صح قولهم : النور هو ظهور اللون وصح أيضاً قول من يقول إنه غير الولن لأن النور بما هو نور لا يختلف إذ لا يعتبر فيه امتزاج ولا شوب مع عدم أو ظلمة والألوان مختلفة ، وأما الوجه الثاني : فهو أيضاً مندفع بما مهد وبأن اللون وإن لم يكن غير النور إلا أن مراتب الأنوار مختلفة شدة وضعفاً ، ومع هذا الاختلاف قد تختلف بوجوه أخر بحسب تركيبات وامتزاجات كثيرة تقع بين أعداد من النور وإمكانها وفعليتها وأصلها وفرعها واعداد من الظلمة أعني عدم ذلك النور وإملكها وفعليتها وأصلها وفرعها فإن هذه الألوان أمور رمادية في الأكثر أو متعلقة بها والمادة منبع الانقسام والتركيب بين الوجودات والإعدام والإمكانات فليس بعجب أن يحصل من ضروب تركيبات النور بالظلمة هذه الألوان التي نراها فتقع تلك الأقسام في محالها على الوجه المذكور ثم يقع عليها نور آخر بمقابلة المنير .
ومن قال بأن النور عين اللون لم يقل بأن كل نور عين كل لون كما أن من قال بأن الوجود عين الماهية لم يقل بأن كل وجود عين كل ماحية ليلزمه أن لا يطرد وجود على وجود ولا تضاد وجود لوجود فالألوان متخالفة الأحكام وبعضها أمور متضادة لكن بما هي ألوان لا بما هي أنوار كما أن الموجودات متخالفة الأحكام وبعضها أشياء متضادة لكن بما هي ماهيات لا بما هي موجودات مع أن الوجود والماهية واحد ، وأما الوجه الثالث : فسبيل دفعه سهل بما بين وكذا الوجه الرابع بأدنى أعمال روية فإن عدم ظهور اللون قد يكون لضعف اللمعان الواقع على شيء وقد يكون لشدة اللمعان فالواقع على المقابل من عكس المضيء الملون قد يكون ضوءه فقط وذلك عن قصور الضوء واللون أو قصور استعداد القابل المقابل وقد يكون كلاهما لقوتهما وقوة استعداد المنعكس إليه ، على أن الكلام في مباحث العكوس طويل ، وكون المنعكس من الجسم المضيء إلى جسم آخر ضوءه دون لونه ربما كان لأجل صقالته فإن الصقيل قد يكون ذا لون وضوء لكن المنعكس منه إلى مقابله ليس إلا ما حصل من نير آخر بتوسطه على نسبة وضعية مخصوصة بنيهما له إليهما لا اللون والضوء اللذان يستقران فيه فالمنعكس في ذلك المقابل ليس إلا الضوء فقط من ذلك النير لا من المنعكس منه إلا أن يكون المنعكس إليه أيضاً جسماً صقيلاً فيقع فيه حكاية منهما أي الضوء واللّولن أو من أحدهما أيضاً .
هذا غاية ما قالوه في النور المحسوس الذي يظهر به الأجسام على الأبصار ؛ ولهم في النور إطلاق آخر وهو الظاهر بذاته والمظهر لغيره وقالوا : هو بهذا المعنى مساو للوجود بل نفسه فيكون حقيقة بسيطة كالوجود منقسماً كانقسامه ، فمنه نور واجب لذاته قاهر على ما سواه ، ومنه أنوار عقلية . ونفسية . وجسمية ، والواجب تعالى نور الأنوار غير متناهى الشدة وما سواه سبحانه أنوار متناهية الشدة بمعنى أن فوقها ما هو أشد منها وإن كان بعضها كالأنوار العقلية لا تقف آثارها عند حد ، والكل من لمعات نوره عز وجل حتى الأجسام الكثيفة فإنها أيضاً من حيث الوجود لا تخلو عن نور لكنه مشوب بظلمات الاعدام والامكانات ، إذا علمت هذا فاعلم أن إطلاق النور على الله سبحانه وتعالى بالمعنى اللغوي والحكمي السابق غير صحيح لكمال تنزهه جل وعلا عن الجسمية والكيفية ولوازمهما ، وإطلاقه عليه سبحانه بالمعنى المذكور وهو الظاهر بذاته والمظهر لغيره قد جوزه جماعة منهم حجة الإسلام الغزالي فإنه قدس سره بعد أن ذكر في رسالته مشكاة الأنوار معنى النور ومراتبه قال : إذا عرفت أن النور يرجع إلى الظهور والإظهار فاعلم أن لا ظلمة أشد من كتم العدم لأن المظلم سمي مظلماً لأنه ليس بظاهر للأبصار مع أنه موجود في نفسه فما ليس موجوداً أصلاً كيف لا يستحق أن يكون هو الغاية في الظلمة .
وفي مقابلته الوجود وهو النور فإن الشيء ما لم يظهر في ذاته لا يظهر لغيره ، والوجود ينقسم إلى ما للشيء من ذاته وإلى ماله من غيره ، فماله الوجود من غيره فوجوده مستعار لا قوام له بنفسه بل إذا اعتبر ذاته من حيث ذاته فهو عدم محض وإنما هو وجود من حيث نسبته إلى غيره وذلك ليس بوجود حقيقي ، فالوجود الحق هو الله تعالى كما أن النور الحق هو الله عز وجل ، وقد قال قبل هذا : أقول ولا أبالي إن إطلاق اسم النور على غير النور الأول مجاز محض إذ كل ما سواه سبحانه إذا اعتبر ذاته فهو في ذاته من حيث ذاته لا نور له بل نورانيته مستعارة من غيره ولا قوام لنورانيته المستعارة بنفسها بل بغيرها ونسبة المستعار إلى المستعير مجاز محض ، وفسر النور في هذه الآية أعني قوله تعالى : { الله نُورُ السموات والأرض } بذلك ، ثم أشار إلى وجه الإضافة إلى { السموات والأرض } بقوله : لا ينبغي أن يخفى عليك ذلك بعد أن عرفت أنه تعالى هو النور ولا نور سواه وإيه كل الأنوار والنور الكلي لأن النور عبارة عما تنكشف به الأشياء وأعلى منه ما تنكشف به وله ومنه وليس فوقه نور منه اقتباسه واستمداده بل ذلك له في ذاته لذاته لا من غيره ، ثم عرفت أن هذا لا يتصف به إلا النور الأول ، ثم عرفت أن السموات والأرض مشحونة نوراً من طبقتي النور أعني المنسوب إلى البصر والمنسوب إلى البصيرة أي إلى الحسن والعقل كنور الكواكب وجواهر الملائكة وكالأنوار المشاهدة المنبسطة على كل ما على الأرض وكأنوار النبوة والقرآن إلى غير ذلك .
وهذا منزع صوفي والصوفية لا يتحاشون من القول بأنه سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً هو الكل بل هو هو لا هوية لغيره إلا بالمجاز ويقولون : لا إله إلا الله توحيد العوام ولا إله إلا هو توحيد الخواص لأنه أتم وأخص وأشمل وأحق وأدق وأدخل لصاحبه في الفردانية المحضة والوحدانية الصرفة ، وقد قال بذلك الغزالي في رسالته المذكورة أيضاً ، وأنت تعلم أنه مما لا يهتدي إليه بنور الاستدلال بل هو طور وراء طور العقل لا يهتدي إليه بنور الله عز وجل .
وجوز بعض المحققين كون المراد من النور في الآية الموجود كأنه قيل : الله موجد السموات والأرض ، ووجه ذلك بأنه مجاز مرسل باعتبار لازم معنى النور وهو الظهور في نفسه وإظهاره لغيره وقيل : هو استعارة والمستعار منه النور بمعنى الظاهر بنفسه المظهر لما سواه والمستعار له الواجب الوجود الموجد لما عداه ، وكون المراد به مفيض الإدراك ومعطيه مجازاً مرسلاً أو استعارة والكلام على حذف مضاف أي نور أهل والسموات والأرض ، وهذا قريب مما أخرجه ابن جرير . وابن المنذر . وابن أبي حاتم . والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال : الله نور السموات والأرض هادي أهل السموات والأرض وهو وجه حسن ، وجاء في رواية أخرى أخرجها ابن جرير عنه رضي الله تعالى عنه فسر النور بالمدبر فقال : الله نور السموات والأرض يدبر الأمر فيهما ، وروى ذلك عن مجاهد أيضاً ، وجعل ذلك بعضهم من التشبيه البليغ .
ووجه الشبه كون كل من التدبير والنور سبب الاهتداء إلى المصالح . وجوز أن يكون هناك استعارة تصريحية . وتعقب بأن ذكر طرفي التشبيه وهو الله تعالى والنور ينافي ذلك وأجيب بأن ذكرهما إنما ينافيه إذا كان على وجه ينبئ عن التشبيه وكان كل من المشبه والمشبه به مذكوراً بعينه وهنا لم يشبه الله سبحانه بالنور بل شبه المدبر به وذكر جزئي يصدق عليه المشبه أو كلي يشمله لا ينافي ذلك كما أشار إليه «صاحب الكشاف » في مواضع منه وصرح به أهل المعاني ، وقيل : المراد به المنزه من كل عيب ، ومن ذلك قولهم : امرأة نوار أي بريئة من الريبة بالفحشاء وهو من باب المجاز أيضاً ، وقيل : الكلام على حذف مضاف كما في زيد كرم أي ذو نور ، ويؤيده كما قيل قوله تعالى بعد { مَثَلُ نُورِهِ } { يَهْدِى الله لِنُورِهِ } .
وقيل : نور بمعنى منور وروى ذلك عن الحسن . وأبي العالية . والضحاك وعليه جماعة من المفسرين ، ويؤيده قراءة بعضهم { منور } وكذا قراءة علي كرم الله تعالى وجهه . وأبي جعفر . وعبد العزيز المكي . وزيد بن علي . وثابت بن أبي حفصة . والقورصي . ومسلمة بن عبد الملك . وأبي عبد الرحمن السلمي . وعبد الله بن عباس بن أبي ربيعة { مِن نُورٍ } فعلاً ماضياً { والأرض } بالنصب ، وتنويره سبحانه السموات والأرض قيل بالشمس والقمر وسائر الكواكب ونسب إلى الحسن ومن معه ، وقيل : تنوير السموات بالملائكة عليهم السلام وتنوير الأرض بالأنبياء عليهم السلام والعلماء ونسب إلى أبي بن كعب ، والتنوير على الأول حسي وعلى الثاني عقلي .
وقيل وهو الذي اختاره : تنويره سبحانه إياهما بما فيهما من الآيات التكوينية والتنزيلية الدالة على وجوده ووحدانيته وسائر صفاته عز وجل والهادية إلى صلاح المعاش والمعاد ، والجملة استئناف مسوق إما لتحقيق أن بيانه تعالى المأذن به قوله سبحانه : { وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ ءايات مبينات } [ النور : 34 ] الآية ليس مقصوراً على ما ورد في هذه السورة الكريمة . وإما لتقرير ما في القرآن الجليل من البيان ، ويتأتى نحو هذا على بعض الأقوال السابقة في بيان المراد بالنور وهو وجه قوي في مناسبة الآية لما قبلها ولا يكاد يظهر مثله على بعض آخر منها . وذكر العلامة الطيبي في بيان المناسبة كلاماً فيه الغث والسمين إن أردته فارجع إليه .
وتخصيص السموات والأرض بالذكر لأنهما المقر المعروف للمكلفين المحتاجين لما يدلهما ويهديهما لما سبق .
وقال العلامة البيضاوي بعد ذكر عدة احتمالات في المراد بالنور : إن إضافته إليهما للدلالة على سعة إشراقه أو لاشتمالهما على الأنوار الحسية والعقلية وقصور الإدراكات البشرية عليهما وعلى المتعلق بهما والمدلول لهما ، وقيل المراد بهما العالم كله كإطلاق المهاجرين والأنصار على جميع الصحابة رضي الله تعالى عنهم .
وتعقب بأن هذا من إطلاق اسم البعض على الكل مجازاً وقد اشترط في التلويح أن يكون الكل مركباً تركيباً حقيقياً ولم يثبت في اللغة إطلاق الأرض على مجموع الأرض والسماء والإنسان على الآدمي والسبع .
وأجيب بأنه لا يتعين كونه مجازاً لجواز كونه كناية ولو سلم فيما في التلويح غير مسلم أو هو أغلبي ، فقد ذكر الزمخشري في قوله تعالى : { لاَ يخفى عَلَيْهِ شَىْء فِي الأرض وَلاَ فِى السماء } [ آل عمران : 5 ] أنه عبر عن جميع العالم بالسماء والأرض ، وقال العلامة في شرحه : إنه من إطلاق الجزء على الكل فالمعنى حينئذ الله نور العالم كله { مَثَلُ نُورِهِ } أي أدلته سبحانه العقلية والسمعية في السموات والأرض التي هدى بها من شاء إلى ما فيه صلاحه وحكى هذا عن أبي مسلم وينتظم ذلك القرآن انتظاماً أولياً ، وعن ابن عباس . والحسن . وزيد بن أسلم أن المراد بالنور هنا القرآن كما يعرب عنه ما قبل من وصف آياته بالأنزال والتبيين ، وقد صرح بكونه نوراً أيضاً في قوله تعالى : { وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً } [ النساء : 174 ] وقيل المراد به الحق فقد جاء استعارة النور له كاستعارة الظلمة للباطل في قوله سبحانه : { الله وَلِيُّ الذين ءامَنُواْ يُخْرِجُهُم مّنَ الظلمات إِلَى النور } [ البقرة : 257 ] أي من أنواع الباطل إلى الحق ووجه الشبه الظهور ، ومن أمثالهم الحق أبلج ، ويكفى ذلك في جواز الاستعارة ولا تتوقف على تحقق ما في النور من معنى الإظهار في الحق ، نعم إذا تحقق ذلك أيضاً فهو نور على نور لكن رجح ضعف تفسيره بما ذكر دون القرآن بأنه يأباه مقام بيان شأن الآيات ووصفها بما ذكر من التبيين مع عدم سبق ذكر الحق .
وفي «الكشف » المراد بالحق الذي فسر النور به ما يقابل الباطل وهو يتناول التوحيد والشرائع وما دل عليه بدليل السمع والعقل ، وليس المراد به كون السموات والأرض دليلين على وجود فاطرهما بل ذلك أيضاً داخل في عموم اللفظ انتهى ، ويضعف عليه أمر هذا التضعيف ، وقيل المراد به الهدى الذي دل عليه الآيات المبينات ، وقيل : الهدى مطلقاً ، فقد أخرج ابن جرير . وابن المنذر . وابن أبي حاتم . والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس أنه قال : مثل نوره مثل هذاه في قلب المؤمن ، وأخرج ابن جرير عن أنس قال : إن إلهي يقول نوري هداي ؛ وذكر بعضهم أن تفسيره بالهدي مختار الأكثرين وأن تفسيره بالحق بالمعنى العام يوافقه ، وقيل : المراد به المعارف والعلوم التي أفاضها عز وجل على قلب المؤمن وإضافة ذلك إليه سبحانه لأنه مفاضه تعالى ، وعن أبي بن كعب . والضحاك تفسيره بالإيمان الذي أعطاه سبحانه المؤمن ووفقه إليه .
/ وجاء في بعض الروايات عن ابن عباس تفسيره بالطاعات التي حلى بها جل شأنه قلب المؤمن فيشمل الإيمان وسائر الأعمال القلبية الحميدة ، وقيل المراد بنوره رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وقد جاء إطلاق النور عليه عليه الصلاة والسلام في قوله تعالى : { قَدْ جَاءكُمْ مّنَ الله نُورٌ وكتاب مُّبِينٌ } [ المائدة : 15 ] على قول ، وقيل : غير ذلك مما ستعلمه إن شاء الله تعالى ، والضمير على جميع هذه الأقوال راجع إليه تعالى كما هو الظاهر .
وجوز رجوع الضمير إلى المؤمن وروى ذلك عن عكرمة وهو إحدى الروايات وصححها الحاكم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وروى أيضاً عن أبي بن كعب بل أخرج عبد بن حميد . وابن الانباري في المصاحف عن الشعبي أنه قال قرأ أبي بن كعب { مَثَلُ نُورِهِ المؤمن } وأخرج أبو عبيد . وابن المنذر عن أبي العالية أن أبياً قرأ { مَثَلُ نُورِهِ مَنْ ءامَنَ بِهِ } أو قال : { مَثَلُ مَنْ ءامَنَ بِهِ } .
وفي «البحر » روى عن أبي أنه قرأ { مَثَلُ نُورِهِ المؤمنين } وقيل : الضمير راجع إلى محمد صلى الله عليه وسلم وروى ذلك جماعة عن ابن عباس عن كعب الاحبار ، وحكاه أبو حيان عن ابن جبير أيضاً ، وقيل : هو راجع إلى القرآن ، وقيل : إلى الإيمان ، ولا يخفى أن رجوع الضمير إلى غير مذكور في الكلام إذا لم يكن في الكلام ما يدل عليه أو كان لكن كانت دلالته عليه خفية خلاف الظاهر جداً لا سيما إذا فات المقصود من الكلام على ذلك ، والمراد بالمثل الصفة العجبية أي صفة نوره سبحانه العجيبة الشأن { كَمِشْكَاةٍ } أي كصفتها في الإنارة والتنوير ، وقال أبو حيان : أي كنور مشكاة وهي الكوة غير النافذة كما قال ابن عباس .
وأبو مالك . وابن جبير . وسعيد بن عياض والجمهور ، وقال أبو موسى : هي الحديدة أو الرصاصة التي تكون فيها الفتيلة في جوف الزجاجة وعن مجاهد أنها الحديدة التي يعلق بها القنديل وهو كما ترى ، والمعول عليه قول الجمهور ، وعن ابن عطية أنه أصح الأقوال وعلى جميعها هو لفظ حبشي معرب كما قال ابن قتيبة . والكلبي . وغيرهما ، وقيل : رومي معرب ، وقال الزجاج كما في «مجمع البيان » : يجوز أن يكون عربياً فيكون مفعلة والأصل مشكوة فقلبت الواو ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها وإلى أن أصل ألفها الواو ذهب ابن جني ، واستدل عليه بأن العرب قد نحوا بها منحاة الواو كما فعلوا بالصلاة .
وقرأ الكسائي برواية الدوري بالإمالة { فِيهَا مِصْبَاحٌ } سراج ضخم ثاقب ، وقيل الفتيلة المشتعلة { المصباح فِى زُجَاجَةٍ } في قنديل من الزجاج الصافي الأزهر وضم الزاي لغة الحجاز وكسرها وفتحها لغة قيس ، وبالفتح قرأ أبو رجاء ونصر بن عاصم في رواية ابن مجاهد .
وقرأ بعضهم بالكسر أيضاً وكذا قرئ بهما في قوله تعالى : { الزجاجة كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرّىٌّ } مضيء متلألءى كالزهرة في صفائه وزهرته منسوب إلى الدر فوزنه فعلي ، وجوز أن يكون أصله درىء بهمزة آخره كما قرأ به حمزة وأبو بكر فقبلت ياء وأدغمت في الياء فوزنه فعيل وهو من الدرء بمعنى الدفع فإنه يدفع الظلام بضوئه أو يدفعه بعض ضوئه بعضاً من لمعانه ، وجوز أن يكون من الدرء بمعنى الجري وليس بذاك ومثله ما قيل إنه من درأ إذا طلع بغتة وفاجأ ولا يخفى على المتتبع أن فعيلاً قليل في كلامهم ففي اللباب فعيل غريب لا نظير له إلا مريق لحب العصفر أو ما سمن من الخيل وعلية وسرية وذرية قاله أبو علي ، وفي «البحر » سمع أيضاً مريخ للذي في داخل القرن اليابس وفيه لغتان ضم الميم وكسرها . وقال الفراء : لم يسمع إلا مريق وهو أعجمي وسيبويه عد ذلك من أبنية العرب ولم يثبت بعضهم هذا الوزن أصلاً .
وقال أبو عبيد : أصل { درىء } دروء كسبوح فجعلت الضمة كسرة للاستثقال والواو ياء لانكسار ما قبلها كما قالوا في عتوعتي فوزنه فعول وكذا قيل في سرية وذرية ، وجعل بعضهم سرية من السر وهو النكاح أو الإخفاء والضم من تغييرات النسب فوزنه فعلية كما في «الصحاح » ، والأخفش يرى أنه من السرور وقد أبدلت الراء الأخيرة ياء وهو معهود في الفعل فقد قالوا : تسررت جارية وتسريت كما قالوا : تظننت وتظنيت فوزنه على هذا كما قال الخفاجي فعليلة ، وجعل بعضهم ذرية نسبة إلى الذر على غير القياس لإخراجهم كالذر من ظهر آدم عليه السلام .
وقرأ قتادة . وزيد بن علي . والضحاك { كَوْكَبٌ دُرّىٌّ } بفتح الدال وروى ذلك عن نصر بن عاصم .
وأبي رجاء وابن المسيب . وقرأ الزهري { دُرّىٌّ } بكسر الراء وقرأ أبو عمرو والكسائي بالكسرة والهمزة آخره ، وهو بناء كثير في الأسماء نحو سكين وفي الأوصاف نحو سكير . وقرأ قتادة أيضاً . وأبان بن عثمان وابن المسيب . وأبو رجاء . وعمرو بن قائد . والأعمش . ونصر بن عاصم { دريء } بالهمز وفتح الدار ، قال ابن جني : وهذا عزيز لم يحفظه منه إلا السكينة بفتح السين وشد الكاف في لغة حكاها أبو زيد . وقرء { دءرى } بتقديم الهمزة ساكنة على الراء وهي من نادر الشواذ وفي إعادة { المصباح } معرفين أثر سبقهما منكرين والاخبار عنهما بما بعدهما مع انتظام الكلام بأن يقال : كمشكاة فيه مصباح في زجاجة كأنها كوكب درى من تفخيم شأنهما ورفع مكانتهما بالتفسير إثر الإبهام والتفصيل بعد الإجمال وباثبات ما بعدهمالهما بطريق الاخبار المنبىء عن القصد الأصلي دون الوصف المنبي عن الإشارة إلى الثبوت في الجملة ما لا يخفى ، والجملة الأولى في محل الرفع على أنها صفة لمصباح والجملة الثانية في محل الجر على أنها صفة لزجاجة واللام مغنية كما في «مجمع البيان » وإرشاد العقل السليم عن الرابط كأنه قيل : فيها مصباح هو في زجاجة هي كأنها كوكب دري { دُرّىٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ } أي يبتدأ إيقاد المصباح من شجرة { مباركة } أي كثيرة المنافع بأن رويت ذبالته بزيتها ، وقيل إنما وصفت بالبركة لأنها تنبت في الأرض التي بارك الله تعالى فيها للعالمين ، وقيل بارك فيها سبعون نبياً منهم إبراهيم عليه السلام { زَيْتُونَةٍ } بدل من { شَجَرَةٍ } وقال أبو علي : عطف بيان عليها وهو مبني على مذهب الكوفيين من تجويزهم عطف البيان في النكرات ، وأما البصريون فلا يجوزونه إلا في المعارف .
وفي إبهام الشجرة ووصفها بالبركة ثم الإبدال عنها أو بيانها تفخيم لشأنها ، وقد جاء في الحديث مدح الزيت لأنه منها ، أخرج عبد بن حميد في مسنده . والترمذي وابن ماجه عن عمر رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ائتدموا بالزيت وادهنوا به فإنه من شجرة مباركة " .
وأخرج البيهقي عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها ذكر عندها الزيت فقالت : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر أن يؤكل ويدهن ويسعط به ويقول أنه من شجرة مباركة " وهو في حد ذاته ممدوح ، ففي الحديث أنه مصحة من الباسور وذكر له الأطباء منافع كثيرة ، وكان صلى الله عليه وسلم يأكل الخبز وأكل عليه الصلاة والسلام اللسان مطبوخاً بالشعير وفيه الزيت والتوابل فليحفظ . وقرى الأخوان . وأبو بكر والحسن . وزيد بن علي . وقتادة . وابن وثاب . وطلحة وعيسى . والأعمش { توقد } بالتاء المثناة من فوق مضارع أوقدت مبنياً للمفعول على أن الضمير القائم مقام الفاعل للزجاجة وإسناد الفعل إليها قيل على سبيل المبالغة ، وقيل هو بتقدير مضاف أي مصباحها .
وقرأ الحسن . والسلمي . وقتادة أيضاً . وابن محيصن . وسلام ومجاهد . وابن أبي إسحاق . والمفضل عن عاصم { توقد } بالتاء الفوقية أيضاً مضارع توقد وأصله تتوقد بتاءين فخفف بحذف أحدهما .
وذكر الخفاجي أنها قارةء أبي عمرو . وابن كثير والإسناد فيها للزجاجة على ما مر . وقرأ السلمي . وقتادة . وسلام أيضاً { دُرّىٌّ يُوقَدُ } بالياء التحتية على أنه مضارع توقد أيضاً ، وجاء كذلك عن الحسن . وابن محيصن ، وأصله يتوقد أي المصباح فحذفت التاء وهو غير معروف مع الياء وإنما المعروف هو الحذف عند اجتماع التاءين المتماثلين .
ووجه ذلك على ما قال ابن جني أنه شبه فيه حرف مضارعة بحرف مضارعة يعني الياء بالتاء فعومل معاملته كما شبهت التاء والنون في تعد ونعد بياء يعد فحذف الواو معهما كماحذفت فيه لوقوعها بين ياء وكسرة .
وقرئ { توقد } بالتاء من فوق على صيغة الماضي من التفعل والضمير للمصباح أي ابتداء توقد المصباح من شجرة .
{ زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ } أي ضاحية للشمس لا يظلها جبل ولا شجر ولا يحجبها عنها شيء من حين تطلع إلى أن تغرب وذلك أحسن لزيتها ، وروى عن ابن عباس . ومجاهد . وعكرمة . وقتادة والكلبي وهو تفسير بلازم المعنى أعني به كونها بين الشرق والغرب . وعن ابن زيد أي ليست من شجر الشرق ولا من شجر الغرب لأن ما اختص بإحدى الجهتين كان أقل زيناً وأضعف ضوأ لكنها من شجر الشام وهي ما بين المشرق والمغرب وزيتونها أجود ما يكون ، وقال أبو حيان في تذكرته : المعنى ليست في مشرقة أبداً أي في موضع لا يصيبه ظل وليست في مقناة أبداً أي في موضع لا تصيبه الشمس ، وحاصله ليست الزيتونة تصيبها الشمس خاصة ولا الظل خاصة ولكن يصيبها هذا في وقت وهذا في وقت ، وقال الفراء والزجاج : المعنى لا شرقية فقط ولا غربية فقط لكنها شرقية غربية أي تصيبها الشمس عند طلوعها وغروبها ، وأنت تعلم أنه لا بد من تقدير قيد فقط بعد كل من { شَرْقِيَّةٍ } كما سمعت ليتوجه النفي إليه فيفيد التركيب اجتماع الأمرين وإلا فظاهره نفيهما ، وعن المطلع أن هذا كقول الفرزدق
: بأيدي رجال لم يشيموا سيوفهم *** ولم تكثر القتلى بها حين سلت
إذ معناه شاموا سيوفهم وأكثروا بها القتلى ، وتعقبه في «الكشف » بأنه لا استدلال بالبيت على ذلك لجواز أن يريد لم يشيموا غير مكثري القتلى على الحال وإفادته المعنى المذكور واضحة حينئذ ، وعن ابن عباس أنها في دوحة أحاطت بها فليست منكشفة لا من جهة الشرق ولا من جهة الغرب ، وتعقب بأن هذا لا يصح عن ابن عباس لأنها إذا كانت بهذه الصفة فسد جناها ، وعن الحسن أن هذا مثل وليست من شجر الدنيا إذ لو كانت في الدنيا لكانت شرقية أو غربية ، وعن عكرمة أنها من شجرة الجنة ولعله إنما جزم بذلك لما ذكر الحسن ولا يخفى ما فيه ، وقرأ الضحاك { زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ } بالرفع أي هي لا شرقية ولا غربية .
وقال أبو حيان : أي لا هي شرقية ولا غربية ، ولعل ما ذكرنا أولى ، والجملة في موضع الصفة لزيتونة .
{ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيء وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ } أي هو في الصفاء والإنارة بحيث يكاد يضي بنفسه من غير مساس نار أصلاً ، وكلمة { لَوْ } في أمثال هذه المواقع ليست لبيان انتقاء الشيء لانتفاء غيره في الزمان الماضي فلا يلاحظ لها جواب قد حذف ثقة بدلالة ما قبلها عليه ملاحظة قصدية إلا عند القصد إلى بيان الإعراب على القواعد الصناعية بل هي لبيان تحقق ما يفيده الكلام السابق من الحكم الموجب أو المنفي على كل حال مفروض من الأحوال المقارنة له إجمالاً بإدخالها على أبعدها منه ، والواو الداخلة عليها لعطف الجملة المذكورة على جملة محذوفة مقابلة لها عند الجزولي ومن وافقه ، ومجموع الجملتين في حيز النصب على الحالية من المستكن في الفعل الموجب أو المنفي ، وتقدير الآية الكريمة { يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِىء وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ } أي يضىء كائناً على كل حال من وجود شرط الإضاءة وعدمه ، وحذفت الجملة الأولى حسبما هو المطرد في الباب ثقة بدلالة الثانية عليها دلالة واضحة .
وقال الزمخشري : الواو للحال ومقتضاه أن { لَوْ } مع ما بعدها حال فالتقدير والحال لو كان أو لو لم يكن كذا أي مفروضاً ثبوته أو انتفاؤه ، لكن الزمخشري ومثله المرزوقي يقدر ولو كان الحال كذا . وتعقب ذلك بأن أدوات الشرط لا تصلح للحالية لأنها تقتضي عدم التحقق والحال يقتضي خلافه ، والتزم لذلك أنه انسلخ عنها الشرطية وأنها مؤولة بالحال كما أن الحال تكون في معنى الشرط نحو لأفعلنه كائناً ما كان أي إن كان هذا أو غيره ولذا لا تحتاج إلى الجزاء أصلاف ، وإنما قدر الحال بعد لو على ما قيل : إشارة إلى أنه قصد إلى جعل الجملة حالاً قبل دخول الشرط المنافي له ثم دخلت { لَوْ } تنبيهاً على أنها حال غير محققة ؛ واعترض الرضي القول بأنها عاطفة بأنه لو كان كذلك لوقع التصريح بالمعطوف عليه في الاستعمال وليس كذلك وذهب إلى أنها اعتراضية .
ويجوز الاعتراض في آخر الكلام والمقصود منه التأكي . وأجيب عن اعتراضه بأن ظهور ترتب الجزاء على المعطوف عليه أغنى عن ذكره حتى كان ذكره تكراراً ، وبالجملة الذي عطف عليه الأكثرون وارتضوه كونها عاطفة ، وبجعل مجموع الجملتين في موضع الحال على ما سمعت يندفع ما يتوهم من أن كاد تنافي اعتبار العطف هنا فتأمل ، وقرأ ابن عباس .
والحسن { يمسسه } بالياء التحتية وحسنه الفصل وكون الفاعل غير حقيقي التأنيث { نَارٌ نُّورٌ على نُورٍ } أي هو نور عظيم كائن على نور على أن يكون { نُورٍ } خبر مبتدأ محذوف والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع صفة له مؤكدة لما أفاده التنكير من الفخامة ، والجملة فذلكة للتمثيل وتصريح بما حصل منه وتمهيد لما يعقبه فالمراد من الضمير النور الذي مثلت صفته العظيمة الشأن بما سمعت لا النور المشبه به وحمله عليه لا يليق كما قيل بشأن التنزيل الجليل ، وليس معنى كونه نوراً فوق نور أنه نور واحد معين أو غير معين فوق نور آخر مثله ولا أنه مجموع نورين اثنين فقط بل إنه نور متضاعف من غير تحديد لتضاعفه بحد معين وتحديد مراتب تضاعف ما مثل به من نور المشكاة بما ذكر لكونه أقصى مراتب تضاعفه عادة فإن المصباح إذا كان في مكان متضايق كالمشكاة كان أضوأ له وأجمع لنوره بسبب انضمام الشعاع المنعكس منه إلى أصل الشعاع بخلاف المكان المتسع فإن الضوء ينبث فيه وينتشر والقنديل أعون شيء على زيادة الإنارة وكذلك الزيت وصفاؤه وليس وراء هذه المراتب مما يزيد نورها إشراقاً ويمده بإضاءة مرتبة أخرى عادة .
والظاهر عندي أن التشبيه الذي تضمنته الآية الكريمة من تشبيه المعقول وهو نوره تعالى بمعنى أدلته سبحانه لكن من حيث أنها أدلة أو القرآن أو التوحيد والشرائع وما دل عليه بدليل السمع والعقل أو الهدى أو نحو ذلك بالمحسوس وهو نور المشكاة المبالغ في نفعته وأنه ليس في المشبه به أجزاء ينتزع منها الشبه ليبنى عليه أنه مركب أو مفرق ، وذكر أنه إذا كان المراد تشبيه النور بمعنى الهدى الذي دلت عليه الآيات المبينات فهو من التشبيه المركب العقلي وقد شبه فيه الهيئة المنتزعة بأخرى فإن النور وإن كان لفظه مفرداً دال على متعدد وكذا إذا كان المراد تشبيه ما نور الله تعالى به قلب المؤمن من المعارف والعلوم بنور المشكاة المنبث فيها من مصباحها ، وفي «الحواشي الطيبة » الطيبية بعد اختيار أن المراد بالنور الهداية بوحي ينزله ورسوله يبعثه ما هو ظاهر في أن التشبيه من التشبيه المفرق بل صرح بذلك أخيراً ، واستدل عليه بأن التكرير في الآية يستدعي ذلك وقد أطال الكلام في هذا المقام ، ومنه أن المشبهات المناسبة على هذا المعنى صدر الرسول صلى الله عليه وسلم وقلبه الشريف واللطيفة الربانية فيه والقرآن وما يتأثر منه القلب عند استمداده . والتفصيل أنه شبه صدره عليه الصلاة والسلام بالمشكاة لأنه كالكوة ذو وجهين فمن وجد يقتبس النور من القلب المستنير ومن آخر يفيض ذلك النور المقتبس على الخلق وذلك لاستعداده بانشراحه مرتين مرة في صباه وأخرى عند أسرائه قال الله تعالى : { أَفَمَن شَرَحَ الله صَدْرَهُ للإسلام فَهُوَ على نُورٍ مّن رَّبّهِ } [ الزمر : 22 ] وهذا تشبيه صحيح قد اشتهر عن جماعة من المفسرين ، روى محيي السنة عن كعب هذا مثل ضربه الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم المشكاة صدره والزجاجة قلبه والمصباح فيه النبوة والشجرة المباركة شجرة النبوة ، وروى الإمام عن بعضهم أن المشكاة صدر محمد عليه الصلاة والسلام والزجاجة قلبه والمصباح ما في قلبه من الدين ، وفي حقائق السلمي عن أبي سعيد الخراز المشكاة جوف محمد صلى الله عليه وسلم والزجاجة قلبه الشريف والمصباح النور الذي فيه ، وشبه قلبه صلوات الله تعالى وسلامه عليه بالزجاجة المنعوتة بالكوكب الدري لصفائه وإشراقه وخلوصه عن كدورة الهوى ولوث النفس الأمّارة وانعكاس نور اللطيفة إليه . وشبهت اللطيفة القدسية المزهرة في القلب بالمصباح الثاقب .
أخرج الإمام أحمد في مسنده عن أبي سعيد الخدري قال : «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : القلوب أربعة قلب أجود فيه مثل السراج يزهر وفيه أما القلب الأجود فقلب المؤمن سراجه فيه نوره » الحديث ، وشبه نفس القرآن بالشجرة المباركة لثبات أصلها وتشعب فروعها وتأديها إلى ثمرات لا نهاية لها قال الله تعالى : { كَلِمَةً طَيّبَةً كَشَجَرةٍ طَيّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِى السماء تُؤْتِى أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبّهَا } [ إبراهيم : 24 ، 25 ] الآية . وروى محيي السنة عن الحسن . وابن زيد الشجرة المباركة شجرة الوحي يكاد زيتها يضىء تكاد حجة القرآن تتضح وإن لم تقرأ . وشبه ما يستمده نور قلبه الشريف صلوات الله تعالى وسلامه عليه من القرآن وابتداء تفويته منه بالزيت الصافي قال الله تعالى : { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الكتاب وَلاَ الإيمان ولكن جعلناه نُوراً نَّهْدِى بِهِ مَن نشان من عبادنا } [ الشورى : 52 ] فكما جعل سبحانه القرآن سبب توقده منه في قوله تعالى : { يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مباركة } جعل ضوءه مستفاداً من انعكاس نور اللطيفة إليه في قوله عز وجل : { وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ } .
والمعنى على ما ذكر في إنسان العين يكاد سر القرآن يظهر للخلق قبل دعوة النبي صلى الله عليه وسلم وفيه مسحة من معنى قوله
: رق الزجاج ورقت الخمر *** فتشابها وتشاكل الأمر فكأنما خمر ولا قدح
وكأنما قدح ولا خمر *** ومنه وصفت الشجرة بكونها لا شرقية ولا غربية وعن ابن عباس تشبيه فؤاده صلى الله عليه وسلم بالكوكب الدري وأن الشجرة المباركة إبراهيم عليه السلام . ومعنى لا شرقية ولا غربية أنه ليس بنصراني فيصلي نحو المشرق ولا يهودي فيصلي نحو المغرب . والزيت الصافي دين إبراهيم عليه السلام ، وقد يقال على تفريق التشبيه لكن على مشرع آخر شبه القرآن بالمصباح على ماس بق ونفسه صلى الله عليه وسلم الزكية الطاهرة بالشجرة لكونها نابتة من أرض الدين متشعبة فروعها إلى سماء الإيمان متدلية أثمارها إلى فضاء الإخلاص والإحسان وذلك لاستقامتها بمقتضى قوله تعالى : { فاستقم كَمَا أُمِرْتَ } [ هود : 112 ] غير مائلة إلى طرفي الإفراط والتفريط وذلك معنى قوله تعالى : { لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَإِلاَّ غَرْبِيَّةٍ } ويشبه ما محض من تلك الثمرات بعد التصفية التامة للتهيئة وقبول الآثار بالزيت الصافي لوفور قوة استعدادها للاستضاءة للدهنية القابلة للاشتعال ، ومن ثم خصت شجرة الزيتون لأن لب ثمرتها الزيت الذي تشتعل به المصابيح ، وخص هذا الدهن لمزيد إشراقه مع قلة الدخان يكاد زيت استعداده صلوات الله تعالى وسلامه عليه لصفائه وزكائه يضىء ولو لم يمسسه نور القرآن ، روى البغوي عن محمد بن كعب القرظي تكاد محاسن محمد صلى الله عليه وسلم تظهر للناس قبل أن يوحى إليه ، قال ابن رواحة
: لو لم يكن فيه آيات مبينة *** كانت بداهته تنبيك عن خبره
وفي حقائق السلمي ثمل نوره في عبده المخلص والمشكاة القلب والمصباح النور الذي قذف فيه والمعرفة تضىء في قلب العارف بنور التوفيق يوقد من شجرة مباركة يضىء على شخص مبارك تتبين أنوار باطنه على آداب ظاهره وحسن معاملته زيتونه لا شرقية ولا غربية جوهرة صافية لا لها حظ في الدنيا ولا في الآخرة لاختصاصها بموالاة العزيز الغفار وتفردها بالفرد الجبار إلى غير ذلك ، وجعل بعضهم التشبيه من المركب الوهمي بناءً على أن المراد من النور المشبه الهدى من حيث أنه محفوف بظلمات أوهام الناس وخيالاتهم .
وكان الظاهر على هذا دخول الكاف على المصباح دون المشكاة المشتملة عليه ، ومن هنا قيل إن في الآية قلباً ، ووجه بعضهم دخولها على المشكاة بأن المشتمل مقدم على المشتمل عليه في رأي العين فقدم لفظاً ودخل الكاف عليه رعاية لذلك ، وقيل إنه على هذا أيضاً تشبيه مفرق لأنه شبه الهدى بالمصباح والجهالات بظلم استلزمتها وهو كما ترى .
ومن الناس من جعل التشبيه مفرقاً لكن بنى كلامه على ما أسسه الفلاسفة فجعل النور المشبه ما منح الله تعالى به عباده من القوى الخمس الدراكة المترتبة التي نيط بها المعاش وهي القوة الحساسة أعني الحس المشترك الذي يدرك المحسوسات بجواسيس الحواس الخمس الظاهرة والقوة الخيالية التي تحفظ صور تلك المحسوسات لتعرضها على القوة العقلية متى شاء والقوة العقلية المدركة للحقائق الكلية والقوة الفكرية التي تأخذ المعارف العقلية فتؤلفها على وجه يحصل به العلم بالمجهولات والقوة القدسية التي يختص بها الأنبياء والأولياء وتنجلي فيها لوائح الغيب وأسرار الملكوت ، وجعل ما في حيز الكاف عبارة عن أمور شبه بكل منها واحد من هذه الخمس فقال : شبهت القوة الحساسة بالمشكاة من حيث أن محلها تجويف في مقدم الدماغ كالكوة تضع فيه الحواس الظاهرة ما تحس به وبذلك يضىء ، وشبهت القوة الخيالية بالزجاجة من حيث أنها تقبل الصور المدركة من الجوانب كما تقبل الزجاجة الأنوار الحسية من الجوانب ومن حيث أنها تضبط الأنوار العقلية وتحفظها كما تحفظ الزجاجة الأنوار الحسية ، ومن حيث أنها تستنير بما يشتمل عليها من المعقولات ، وشبهت القوة العقلية بالمصباح لإضاءتها بالإدراكات والمعارف وشبهت القوة الفكرية بالشجرة المباركة من حيث أنها تؤدي إلى نتائج كثيرة هي بمنزلة ثمرات الشجرة ، واعتبرت زيتونة لأن لها فضيلة على سائر الأشجار من حيث أن لب ثمرتها هو الزيت الذي له منافع جمة ، منها أنه مادة المصابيح والأنوار الحسية وله من بين سائر الأدهان خاصية زيادة الإشراق وقلة الدخان ، واعتبار وصف { لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ } في جانب المشبه من حيث أن القوة الفكرية مجردة عن اللواحق الجسمية أو من حيث أن انتفاعها ليس مختصاً بجانب الصور ولا بجانب المعاني ، وشبهت القوة القدسية بالزيت الذي يكاد يضىء من غير أن تمسسه نار من حيث أنها لكمال صفائها وشدة استعدادها لا تحتاج إلى تعليم أو تفكر .
واعترض بأن حق النظم الكريم على هذا أن يقال : مثل نوره كمشكاة وزجاجة ومصباح وشجرة مباركة زيتونة وزيت يكاد يضىء ولو لم تمسسه نار حتى يفيد تشبيه كل واحد بكل واحد . وأجيب بأنه لما كان كل من هذه الحواس يأخذ ما يدركه مما قبله كما يأخذ المظروف من ظرفه أشار سبحانه إلى ذلك بأداة الظرفية دلالة على بديع صنعه سبحانه وحكمته جل شأنه .
وجوز أن يراد تشبيه النور المراد به القوة العقلية للنفس بمراتبها بذلك ومراتبها أربع ، الأولى : أن تكون النفس خالية عن جميع العلوم الضرورية والنظرية مستعدة لها كما في مبدأ الطفولية وتسمى القوة العقلية في هذه المرتبة بالعقل الهيولاني لأنها كالهيولى في أنها في ذاتها خالية عن جميع الصور قابلة لها ، وثانيتها : أن تستعمل آلاتها أي الحواس مطلقاً فيحصل لها علوم أولية ، وتستعد لاكتساب علوم نظرية وتسمى القوة المذكورة في هذه المرتبة عقلاً بالملكة لحصول ملكة الانتقال إلى النظريات لها بسبب تلك الأوليات ، وثالثتها : أن تصير النظريات مخزونة عندها وتحصل لها ملكة استحضارها متى شاءت من غير تجشم كسب جديد وتسمى تلك القوة في هذه المرتبة عقلاً بالفعل لحصول تلك العلوم لها بالقوة القريبة من الفعل ، ورابعتها : أن ترتب العلوم الأولية وتدرك العلوم النظرية مشاهدة إياها بالفعل وتسمى تلك القوة في هذه المرتبة عقلاً مستفاداً لاستفادتها من العقل الفعال فشبهت القوة بالمرتبة الأولى بالمشكاة الخالية في بدء الأمر عن الأنوار الحسية المستعدة للاستنارة بها وبالمرتبة الثانية بالزجاجة المتلألئة في نفسها القابلة للأنوار الفائضة عليها من النير الخارجي وبالمرتبة الثالثة بالمصباح الذي اشتعلت فتيلته المشبعة من الزيت وبالمرتبة الرابعة بالنور المتضاعف المشار إليه بقوله تعالى : { نُّورٌ على نُورٍ } والشيخ ابن سينا بعد أن بين المراتب حمل مفردات التنزيل عليها ، وحقق في المحاكمات وجه الترتيب فيها حيث جعل الزجاجة في المشكاة والمصباح في الزجاجة بأن هناك استعداداً محضاً كما في المرتبة الأولى واستعداد اكتساب كما في المرتبة الثانية واستعداد استحضار كما في المرتبة الثالثة ولا شك أن استعداد الاكتساب بحسب الاستعداد المحض واستعداد الاستحضار بحسب استعداد الاكتساب فتكون الزجاجة التي هي عبارة عن العقل بالملكة كأنما هي في المشكاة التي هي عبارة عن العقل الهيولاني والمصباح وهو العقل بالفعل في الزجاجة التي هي العقل بالملكة لأنه إنما يحصل باعتبار حصول العقل أولاً وحيث أن العقل بالملكة إنما يخرج من القوة إلى الفعل بالفكر أو بالحدس أو بالقوة القدسية أشير إلى الفكر بالشجرة الزيتونة وإلى الحدس بالزيت وإلى القوة القدسية بيكاد زيتها يضىء ؛ ودفع ما يظهر من عدم انطباق ما ذكر على النظم الجليل لأنه وصف فيه الشجرة بما سمعت من الصفات ، وهذه أمور متباينة لا يجوز وصف أحدها بالآخر بأن الشجرة الزيتونة شيء واحد فإذا ترقت في أطوارها حصل لها زيت إذا ترقى وصفاً كاد يضىء ؛ وكذلك الاكتساب قوة نفسية هي فكرة فإذا ترقت كانت حدساً ، ثم قوة قدسية فهي وإن كانت متباينة ترجع إلى شيء واحد كالشجرة وذكر أن قوله تعالى : { لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ } إشارة إلى أنها ليست من عالم الحس الذي لا يخلو عن أحد الأمرين ، ولا يخفى عليك أن هذا مع تكلفه وابتنائه على ما أسسه الفلاسفة الذين هم في عمى عن نور الشريعة ولله تعالى در من قال فيهم
: قطعت الأخوة عن معشر *** بهم مرض من كتاب الشفا فماتوا على دين رسطالس
وعشنا على سنة المصطفى *** لا يناسب المقام ولا ينتظم معه أطراف الكلام ، وفيه ما يقتضي أن قوله تعالى : { نُّورٌ على نُورٍ } داخل في التمثيل وفيه خلاف ، ثم أعلم أنه يعلم بمعونة ما ذكرنا حال التشبيه على سائر الأقوال في المراد بالنور ، ولعل ما ذكرناه فيه أتم نوراً وأشد ظهوراً والله تعالى أعلم بحقائق الأمور ، { وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ الله لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ } [ النور : 40 ] { يَهْدِى الله لِنُورِهِ } أي يهدي سبحانه هداية خاصة موصلة إلى المطلوب حتماً لذلك النور المتضاعف العظيم الشأن ، وإظهاره في مقام الإضمار لزيادة تقريره وتأكيد فخامته الذاتية بفخامته الإضافية الناشئة من إضافته إلى ضمير عز وجل { مَن يَشَآء } هدايته من عباده بأن يوفقهم سبحانه لفهم وجوه دلالة الأدلة العقلية والسمعية التي نور بها السموات والأرض على وجه ينتفعون به أو بأن يوفقهم لفهم ما في القرآن من دلائل حقيته وكونه من عنده عز وجل من الإعجاز والإخبار عن الغيب وغير ذلك من موجبات الإيمان وفيه احتمالات أخر بحسب ما في النور من الأقوال ، وأياً ما كان ففيه إيذان بأن مناط هذه الهداية وملاكها ليس إلا مشيئته تعالى وأن إظهار الأسباب بدونها بمعزل عن الإفضاء إلى المطالب
: إذا لم يكن التوفيق عوناً لطالب *** طريق الهدى أعيت عليه مطالبه
{ وَيَضْرِبُ الله الامثال لِلنَّاسِ } في تضاعيف الهداية حسبما يقتضيه حالهم فإن لضرب المثل دخلاً عظيماً في باب الإرشاد لأنه إبراز للمعقول في هيئة المحسوس وتصوير لأوابد المعاني بصورة المأنوس ولذلك مثل جل وعلا نوره المراد به ما يشمل القرآن أو القرآن المبين فقط بنور المشكاة ، وإظهار الاسم الجليل في مقام الإضمار على ما في إرشاد العقل السليم للإيذان باختلاف ما أسند إليه تعالى من الهداية الخاصة وضرب الأمثال الذي هو من قبيل الهداية العامة كما يفصح عنه تعليق الأولى بمن شاء والثانية بالناس كافة .
{ والله بِكُلّ شَيْء عَلِيمٌ } معقولاً كان أو محسوساً ظاهراً كان أو باطناً ومن قضيته أن تتعلق مشيئته تعالى بهداية من يليق بها ويستحقها من الناس دون من عداهم لمخالفته الحكمة التي هي مبني التكوين والتشريع وأن تكون هدايته سبحانه العامة على فنون مختلفة وطرائق شتى حسبما تقتضيه أحوالهم وتقوم به الحجة له تعالى عليهم ، والجملة اعتراض تذييلي مقرر لما قبله ، وقيل جىء بها لوعد من تدبر الأمثال ووعيد من لم يكترث بها ، وقيل لبيان أن فائدة ضرب الأمثال التي هي التوضيح إنما هي للناس وليس بذاك ، وإظهار الاسم الجليل لتأكيد استقلال الجملة والإشعار بعلة الحكم ، وبما ذكر آنفاً من اختلاف حال المحكوم به ذاتاً وتعلقاً .
ومن باب الإشارة :ولهم في قوله تعالى : { الله نُورُ السموات والأرض } [ النور : 35 ] كلام طويل عريض وفيما قدمنا ما يصلح أن يكون من هذا الباب