البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{۞ٱللَّهُ نُورُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ مَثَلُ نُورِهِۦ كَمِشۡكَوٰةٖ فِيهَا مِصۡبَاحٌۖ ٱلۡمِصۡبَاحُ فِي زُجَاجَةٍۖ ٱلزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوۡكَبٞ دُرِّيّٞ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٖ مُّبَٰرَكَةٖ زَيۡتُونَةٖ لَّا شَرۡقِيَّةٖ وَلَا غَرۡبِيَّةٖ يَكَادُ زَيۡتُهَا يُضِيٓءُ وَلَوۡ لَمۡ تَمۡسَسۡهُ نَارٞۚ نُّورٌ عَلَىٰ نُورٖۚ يَهۡدِي ٱللَّهُ لِنُورِهِۦ مَن يَشَآءُۚ وَيَضۡرِبُ ٱللَّهُ ٱلۡأَمۡثَٰلَ لِلنَّاسِۗ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٞ} (35)

المشكاة : الكوة غير النافذة .

قال الكلبي حبشي معرب .

الزجاجة : جوهر مصنوع معروف ، وضم الزاي لغة الحجاز ، وكسرها وفتحها لغة قيس .

الزيت : الدهن المعتصر من حب شجرة الزيتون .

النور في كلام العرب الضوء المدرك بالبصر ، فإسناده إلى الله تعالى مجاز كما تقول زيد كرم وجود وإسناده على اعتبارين ، إما على أنه بمعنى اسم الفاعل أي منوّر السموات والأرض ، ويؤيد هذا التأويل قراءة عليّ بن أبي طالب وأبي جعفر وعبد العزيز المكي وزيد بن عليّ وثابت بن أبي حفصة والقورصي ومسلمة بن عبد الملك وأبي عبد الرحمن السلمي وعبد الله بن عياش بن أبي ربيعة { نور } فعلاً ماضياً و { الأرض } بالنصب .

وإما على حذف أي ذو نور ، ويؤيده قوله { مثل نوره } ويحتمل أن يجعل نوراً على سبيل المدح ، كما قالوا فلان شمس البلاد ونور القبائل وقمرها ، وهذا مستفيض في كلام العرب وأشعارها .

قال الشاعر :

كأنك شمس والملوك كواكب***

وقال :

قمر القبائل خالد بن زيد***

وقال :

إذا سار عبد الله من مرو ليلة *** فقد سار منها بدرها وجمالها

ويروى نورها ، وأضاف النور إلى { السموات والأرض } لدلالة على سعة إشراقه وفشو إضاءته حتى يضيء له السموات والأرض ، أو يراد أهل السموات والأرض وأنهم يستضيئون به .

وقال ابن عباس : { نور السموات } أي هادي أهل السموات .

وقال مجاهد : مدبر أمور السموات .

وقال الحسن : منور السموات .

وقال أبي : الله به نور السموات أو منه نور السموات أي ضياؤها .

وقال أبو العالية : مزين السموات بالشمس والقمر والنجوم ، ومزين الأرض بالأنبياء والعلماء .

وقيل : المنزه من كل عيب امرأة نوار بريئة من الريبة والفحشاء .

وقال الكرماني : هو الذي يرى ويرى به مجاز وصف الله به لأنه يرى ويرى بسببه مخلوقاته لأنه خلقها وأوجدها .

والظاهر أن الضمير في { مثل نوره } عائد على الله تعالى .

واختلفوا في هذا القول ما المراد بالنور المضاف إليه تعالى .

فقيل : الآيات البينات في قوله { ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات } وقيل : الإيمان المقذوف في قلوب المؤمنين .

وقيل : النور هنا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وقيل : النور هنا المؤمن .

وقال كعب وابن جبير : الضمير في { نوره } عائد على محمد صلى الله عليه وسلم ، أي مثل نور محمد .

وقال أبيّ : هو عائد على المؤمنين وفي قراءته مثل نور المؤمن .

وروي أيضاً فيها مثل نور من آمن به .

وقال الحسن : يعود على القرآن والإيمان وهذه الأقوال الثلاثة عاد فيها الضمير على غير مذكور ، ونقلت المعنى المقصود بالآية بخلاف عوده على الله تعالى ، ولذلك قال مكي يوقف على { الأرض } في تلك الأقوال الثلاثة .

واختلفوا في هذا التشبيه أهو تشبيه جملة بجملة لا يقصد فيها إلى تشبيه جزء بجزء ومقابلة شيء بشيء ، أو مما قصد به ذلك أي مثل نور الله الذي هو هداه واتقانه صنعة كل مخلوق وبراهينه الساطعة على الجملة كهذه الجملة من النور الذي تتخذونه أنتم على هذه الصفة التي هي أبلغ صفات النور الذي بين أيدي الناس ، أي مثل نور الله في الوضوح كهذا الذي هو منتهاكم أيها البشر .

وقيل : هو من التشبيه المفصل المقابل جزءاً بجزء ، وقرروه على تلك الأقوال الثلاثة أي { مثل نوره } في محمد أو في المؤمن أو في القرآن والإيمان { كمشكاة } فالمشكاة هو الرسول أو صدره { والمصباح } هو النبوة وما يتصل بها من علمه وهداه و { الزجاجة } قلبه .

والشجرة المباركة الوحي والملائكة رسل الله إليه ، وشبه الفصل به بالزيت وهو الحجج والبراهين والآيات التي تضمنها الوحي وعلى قول المؤمن فالمشكاة صدره و { المصباح } الأيمان والعلم .

و { الزجاجة } قلبه والشجرة القرآن وزيتها هو الحجج والحكمة التي تضمنها .

قال أبيّ : فهو على أحسن الحال يمشي في الناس كالرجل الحي يمشي في قبور الأموات ، وعلى قول الإيمان والقرآن أي مثل الإيمان والقرآن في صدر المؤمن في قلبه { كمشكاة } وهذا القول ليس في مقابلة التشبيه كالأولين ، لأن المشكاة ليست تقابل الإيمان .

وقال الزمخشري : أي صفة { نوره } لعجيبة الشأن في الإضاءة { كمشكاة } أي كصفة مشكاة انتهى .

ويظهر لي أن قوله { كمشكاة } هو على حذف مضاف أي { مثل نوره } مثل نور مشكاة وتقدّم في المفردات أن المشكاة هي الكوة غير النافذة ، وهو قول ابن جبير وسعيد بن عياض والجمهور .

وقال أبو موسى : المشكاة الحديدة والرصاصة التي تكون فيها الفتيل في جوف الزجاجة .

وقال مجاهد : المشكاة العمود الذي يكون المصباح على رأسه ، وقال أيضاً الحدائد التي تعلق فيها القناديل .

{ فيها مصباح } أي سراج ضخم ، والظاهر أن { الزجاجة } ظرف للمصباح لقوله { المصباح في زجاجة } وقدره الزمخشري في زجاج شامي ، وكان عنده أصفى الزجاج هو الشامي ولم يقيد في الآية .

وقرأ أبو رجاء ونصر بن عاصم { في زجاجة الزجاجة } بكسر الزاي فيهما ، وابن أبي عبلة ونصر بن عاصم في رواية ابن مجاهد بفتحها .

{ كأنها } أي كأن الزجاجة لصفاء جوهرها وذاتها وهو أبلغ في الإنارة ، ولما احتوت عليه من نور المصباح .

{ كوكب دري } قال الضحاك : هو الزهرة شبه الزجاجة في زهرتها بأحد الدراري من الكواكب المشاهير ، وهي المشتري ، والزهرة ، والمريخ ، وسهيل ونحو ذلك .

وقرأ الجمهور من السبعة نافع وابن عامر وحفص وابن كثير { دُرّي } بضم الدال وتشديد الراء والياء ، والظاهر نسبة الكوكب إلى الدر لبياضه وصفائه ، ويحتمل أن يكون أصله الهمز فأبدل وأدغم .

وقرأ قتادة وزيد بن عليّ والضحاك كذلك إلاّ أنهما فتحا الدال .

وروى ذلك عن نصر بن عاصم وأبي رجاء وابن المسيب .

وقرأ الزهري كذلك إلاّ أنه كسر الدال .

وقرأ حمزة كذلك إلاّ أنه همز من الدرء بمعنى الدفع ، أي يدفع بعضها بعضاً ، أو يدفع ضوؤها خفاءها ووزنها فعيل .

قيل : ولا يوجد فعيل إلاّ قولهم مريق للعصفر ودريء في هذه القراءة .

قيل : وسرية إذا قيل إنها مشتقة من السرور ، وأبدل من أحد المضعفات الياء فأدغمت فيها ياء فعيل ، وسمع أيضاً مريخ للذي في داخل القرن اليابس بضم الميم وكسرها .

وقيل : منه عليه .

وقيل : { دري } ووزنه في الأصل فعول كسبوح فاستثقل الضم فرد إلى الكسر ، وكذا قيل في سرته ودرته .

وقرأ أبو عمرو والكسائي كذلك إلاّ أنه كسر الدال وهو بناء كثير في الأسماء نحو سكين وفي الأوصاف سكير .

وقرأ قتادة أيضاً وأبان بن عثمان وابن المسيب وأبو رجاء وعمرو بن فائد والأعمش ونصر بن عاصم كذلك إلاّ أنه بفتح الدال .

قال ابن جني : وهذا عزيز لم يحفظ منه إلاّ السكينة بفتح السين وشدّ الكاف انتهى .

وفي الأبنية حكى الأخفش كوكب دريء من درأته ودرية وعليك بالسكينة والوقار عن أبي زيد .

وحكى الفراء بكسر السين .

وقرأ الأخوان وأبو بكر والحسن وزيد بن عليّ وقتادة وابن وثاب وطلحة وعيسى والأعمش { تُوقد } بضم التاء أي { الزجاجة } مضارع أوقدت مبيناً للمفعول ، ونافع وابن عامر وحفص كذلك إلاّ أنه بالياء أي { المصباح } وابن كثير وأبو عمرو { توقد } بفتح الأربعة فعلاً ماضياً أي { المصباح } .

والحسن والسلمي وقتادة وابن محيصن وسلام ومجاهد وابن أبي إسحاق والمفضل عن عاصم كذلك إلاّ أنه بضم الدال مضارع { توقد } وأصله تتوقد أي { الزجاجة } .

وقرأ عبد الله وقد بغير تاء وشدد القاف جعله فعلاً ماضياً أي وقد المصباح .

وقرأ السلمي وقتادة وسلام أيضاً كذلك إلاّ أنه بالياء من تحت .

وجاء كذلك عن الحسن وابن محيصن ، وأصله يتوقد أي { المصباح } إلاّ أن حذف الياء في يتوقد مقيس لدلالة ما أبقى على ما حذف .

وفي { يوقد } شاذ جدّاً لأن الياء الباقية لا تدل على التاء المحذوفة ، وله وجه من القياس وهو حمله على يعد إذ حمل يعد وتعد وأعد في حذف الواو كذلك هذ لما حذفوا من تتوقد بالتاءين حذفوا التاء مع الياء وإن لم يكن اجتماع التاء والياء مستثقلاً .

{ من شجرة } أي من زيت شجرة ، وهي شجرة الزيتون .

{ مباركة } كثيرة المنافع أو لأنها تنبت في الأرض التي بارك فيها للعالمين .

وقيل : بارك فيها للعالمين .

وقيل : بارك فيها سبعون نبياً منهم إبراهيم عليه السلام ، والزيتون من أعظم الشجر ثمراً ونماء واطراد أفنان ونضارة أفنان .

وقال أبو طالب :

بورك الميت الغريب كما *** بورك نضر الرمان والزيتون

{ لا شرقية ولا غربية } .

قال ابن زيد : هي من شجر الشام فهي ليست من شرق الأرض ولا من غربها ، لأن شجر الشام أفضل الشجر .

وقال ابن عباس وعكرمة وقتادة وغيرهم : هي في منكشف من الأرض تصيبها الشمس طول النهار تستدير عليها ، فليست خالصة للشرق فتسمى { شرقية } ، ولا للغرب فتسمى { غربية } وقال الحسن : هذا مثل وليست من شجر الدنيا إذ لو كانت في الدنيا لكانت شرقية أو غربية .

وعن ابن عباس : أنها في درجة أحاطت بها فليست منكشفة لا من جهة الشرق ولا من جهة الغرب ، وهذا لا يصح عن ابن عباس لأنها إذا كانت بهذه الصفة فسد جناها .

وقال ابن عطية : إنها في وسط الشجر لا تصيبها الشمس طالعة ولا غاربة ، بل تصيبها بالغداة والعشي .

وقال عكرمة : هي من شجر الجنة .

وقال ابن عمر : الشجرة مثل أي إنها ملة إبراهيم ليست بيهودية ولا نصرانية .

وقيل : ملة الإسلام ليست بشديدة ولا لينة .

وقيل : لا مضحى ولا مفيأة ، ولكن الشمس والظل يتعاقبان عليها ، وذلك أجود لحملها وأصفى لدهنها .

و { زيتونة } بدل من { شجرة } وجوز بعضهم فيه أن يكون عطف بيان ، ولا يجوز على مذهب البصريين لأن عطف البيان عندهم لا يكون إلاّ في المعارف ، وأجاز الكوفيون وتبعهم الفارسي أنه يكون في النكرات .

و { لا شرقية } { ولا } على { غربية } على قراءة الجمهور بالخفض صفة لزيتونة .

وقرأ الضحاك بالرفع أي لا هي شرقية ولا غربية ، والجملة في موضع الصفة .

{ يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار } مبالغة في صفاء الزيت وأنه لإشراقه وجودته يكاد يضيء من غير نار .

والجملة من قوله { ولو لم تمسسه نار } حالية معطوفة على حال محذوفة أي { يكاد زيتها يضيء } في كل حال ولو في هذه الحال التي تقتضي أنه لا يضيء لانتفاء مس النار له ، وتقدم لنا أن هذا العطف إنما يأتي مرتباً لما كان لا ينبغي أن يقع لامتناع الترتيب في العادة وللاستقصاء حتى يدخل ما لا يقدر دخوله فيما قبله نحو : «أعطوا السائل ولو جاء على فرس ، ردوا السائل ولو بظلف محرق » .

وقرأ الجمهور : { تمسسه } بالتاء وابن عباس والحسن بالياء من تحت ، وحسنه الفصل وأن تأنيث النار مجازي وهو مؤنث بغير علامة .

{ نور على نور } أي متضاعف تعاون عليه المشكاة والزجاجة والمصباح والزيت ، فلم يبق مما يقوى النور ويزيده إشراقاً شيء لأن المصباح إذا كان في مكان ضيق كان أجمع لنوره بخلاف المكان المتسع ، فإنه ينشر النور ، والقنديل أعون شيء على زيادة النور وكذلك الزيت وصفاؤه ، وهنا تم المثال .

ثم قال { يهدي الله لنوره من يشاء } أي لهداه والإيمان من يشاء هدايته ويصطفيه لها .

ومن فسر { النور } في { مثل نوره } بالنبوة قدر يهدي الله إلى نبوته .

وقيل : إلى الاستدلال بالآيات ، ثم ذكر تعالى أنه يضرب الأمثال للناس ليقع لهم العبرة والنظر المؤدّي إلى الإيمان ، ثم ذكر إحاطة علمه بالأشياء فهو يضع هداه عند من يشاء .

{ في بيوت } متعلق بيوقد قاله الرماني ، أو في موضع الصفة لقوله { كمشكاة } أي كمشكاة في بيوت قاله الحوفي ، وتبعه الزمخشري قال { كمشكاة } في بعض بيوت الله وهي المساجد .

وقال { مثل نوره } كما ترى في المسجد نور المشكاة التي من صفتها كيت وكيت انتهى .

وقوله كأنه إلى آخره تفسير معنى لا تفسير إعراب أو في موضع الصفة لمصباح أي مصباح { في بيوت } قاله بعضهم أو في موضع الصفة لزجاجة قاله بعضهم ، وعلى هذه الأقوال الأربعة لا يوقف على قوله { عليم } .