{ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } أي منورهما بالكواكب وما يفيض عنها من الأنوار . فهو مجاز من إطلاق الأثر على مؤثره . كما يطلق السبب على مسببه . أو مدبرهما ، من قولهم للرئيس الفائق في التدبير ( نور القوم ) لأنهم يهتدون به في الأمور فيكون مجازا . أو استعارة استعير ( النور ) بمعنى المنور ، للمدبر ، لعلاقة المشابهة في حصول الاهتداء . أو موجدهما . فإن النور ظاهر بذاته مظهر لغيره – كما قاله الغزالي – فيكون أطلق عليه تعالى مجازا مرسلا باعتبار لازم معناه .
قال أبو السعود : وعبر عن المنور بالنور ، تنبيها على قوة التنوير ، وشدة التأثير . وإيذانا بأنه تعالى ظاهر بذاته ، وكل ما سواه ظاهر بإظهاره . كما أن النور نير بذاته وما عداه مستنير به . وأضيف ( النور ) إلى { السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } للدلالة على سعة إشراقه . أو المراد بهما العالم كله { مَثَلُ نُورِهِ } أي صفة نوره العجيبة الشأن . قال أبو السعود : أي نوره الفائض منه تعالى على الأشياء المستنيرة به وهو القرآن المبين . كما يعرب عنه ما قبله من وصف آياته بالإنزال والتبيين . وقد صرح بكونه نورا أيضا في قوله تعالى {[5836]} : { وأنزلنا إليكم نورا مبينا } وبه قال ابن عباس رضي الله عنهما ، والحسن ، وزيد بن أسلم رحمهم الله تعالى { كَمِشْكَاةٍ } أي كصفة كوة – طاقة – غير نافذة في الجدار ، في الإنارة والتنوير{ فِيهَا مِصْبَاحٌ } أي سراج صخم ثاقب – شديد الإضاءة – وقيل : المشكاة الأنبوبة في وسط القنديل ، والمصباح الفتيلة المشتعلة { الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ } أي قنديل من الزجاج الصافي الأزهر { الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ } أي متلألئ وقاد شبيه بالدر في صفائه وزهرته { يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ } أي كثيرة المنافع ، بأن رويت فتيلته بزيتها { زَيْتُونِةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ } أي لا شرقية تقع عليه الشمس وقت الشروق فقط ، ولا غربية تقع عليها عند الغروب . ولا تصيبها في الغداة . بل في مكان عليها الشمس مشرقة من أول طلوعها إلى آخر غروبها . كصحراء أو رأس جبل . فزيتها أضوأ { يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ } أي يكاد يضيء بنفسه من غير نار لصفائه ولمعانه { نُّورٌ عَلَى نُورٍ } أي ذلك النور الذي عبر به عن القرآن ، ومثلت صفته العجيبة بما فصل عن صفة المشكاة . نور عظيم كائن على نور كذلك . ف { نور } خبر مبتدأ محذوف والجار متعلق بمحذوف صفة له مؤكدة لما أفاده التنكير من الفخامة ، والجملة فذلكة للتمثيل ، وتصريح لما حصل منه ، وتمهيد لما يعقبه . وليس معنى{ نُّورٌ عَلَى نُورٍ } نور واحد فوق نور آخر مثله ، ولا مجموع نورين اثنين فقط . بل هو عبارة عن نور متضاعف كتضاعف ما مثل به من نور المشكاة بما ذكر . فإن المصباح إذا كان في مكان متضايق كالمشكاة ، كان أضوأ له وأجمع لنوره . بخلاف المكان الواسع ، فإن الضوء ينبت فيه وينتشر . والقنديل أعون شيء على زيادة الإنارة . وكذلك الزيت وصفاؤه . وليس وراء هذه المراتب مما يزيد نورها إشراقا ، مرتبة أخرى عادة . { يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء } أي لهذا النور الثاقب العظيم الشأن ، بأن يوفقهم للإيمان به وفهم دلائل حقيته .
قال أبو السعود : وإظهاره في مقام الإضمار . لزيادة تقريره ، وتأكيد فخامته الذاتية بفخامته الإضافية الناشئة من إضافته إلى ضميره عز وجل { وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ } أي ليدنو لهم المعقول من المحسوس ، توضيحا وبيانا . ولذلك مثل نوره المعبر عنه بالقرآن ، بنور المشكاة { وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } أي فلا يخفى عليه شيء . وفيه وعد ووعيد . لأن علمه تعالى ، عبارة عن مجازاته في أمثال هذه الآي .
هذه الآية الكريمة – آية النور – من الآيات التي صنفت فيها مصنفات خاصة . منها ( مشكاة الأنوار ) للإمام الغزالي ، وقد نقل عنه الرازي في ( تفسيره ) هنا جملة سابغة الذيل . ورأيت للإمام ابن القيم في كتابه ( الجيوش الإسلامية ) ما يجمل إيراده ، تعزيزا للمقام واستظهارا بزيادة العلم .
قال رحمه الله : سمى الله سبحانه وتعالى نفسه نورا وجعل كتابه نورا ورسوله صلى الله عليه وسلم نورا ودينه نورا . واحتجب عن خلقه بالنور وجعل دار أوليائه نورا يتلألأ ، قال الله تعالى {[5837]} : { الله نور السماوات والأرض } وقد فسر بكونه منور السماوات والأرض ، وهادي أهل السماوات والأرض . فبنوره اهتدى أهل السماوات والأرض . وهذا إنما هو فعله . وإلا فالنور الذي هو من أوصافه قائم به . ومنه اشتق له اسم النور الذي هو أحد الأسماء الحسنى . والنور يضاف إليه سبحانه على أحد وجهين . إضافة صفة لموصوفها ، وإضافة مفعول إلى فاعله . فالأول كقوله {[5838]} عز وجل : { وأشرقت الأرض بنور ربها } فهذا إشراقها يوم القيامة بنوره تعالى ، إذا جاء لفصل القضاء . ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في الدعاء المشهور : ( أعوذ بنور وجهك الكريم أنت تضلني لا إله إلا أنت ) . وفي الأثر الآخر : ( أعوذ بوجهك – أو بنور وجهك – الذي أشرقت له الظلمات ) . فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم . أن الظلمات أشرقت لنور وجه الله . كما أخبر تعالى أن الأرض تشرق يوم القيامة بنوره .
وفي ( معجم الطبراني ) و( السنة ) له و( كتاب عثمان الدارمي ) وغيرها ، عن ابن مسعود رضي الله عنه . قال : ( ليس عند ربكم ليل ولا نهار ، نور السماوات والأرض من نور وجهه ) . وهذا الذي قاله ابن مسعود رضي الله عنه أقرب إلى تفسير الآية ، من قول من فسرها بأنه هادي أهل السماوات والأرض . وأما من فسرها بأنه منور السماوات والأرض ، فلا تنافي بينه وبين قول ابن مسعود . والحق أنه نور السماوات والأرض بهذه الاعتبارات كلها . وفي ( صحيح {[5839]} مسلم ) وغيره من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال : ( قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات فقال : إن الله لا ينام ، ولا ينبغي له أن ينام ، يخفض القسط ويرفعه ، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار ، وعمل النهار قبل عمل الليل . حجابه النور . لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه ) . وفي ( صحيح {[5840]} مسلم ) عن أبي ذر رضي الله عنه قال : ( سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم : هل رأيت ربك ؟ قال : نور ، أنى أراه ) . فسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى يقول : معناه كان ثمة نور ، وحال دون رؤيته نور ، فأنى أراه ؟ قال : ويدل عليه أن في بعض الألفاظ الصحيحة : ( هل رأيت ربك ؟ فقال : رأيت نورا ) . وقد أعضل أمر هذا الحديث على كثير من الناس حتى صحفه بعضهم فقال : نوراني أراه . على أنها ياء النسب ، والكلمة كلمة واحدة . وهذا خطأ لفظا ومعنى . وإنما أوجب لهم هذا الإشكال والخطأ أنهم لما اعتقدوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى ربه ، وكان قوله ( أنى أراه ) كالإنكار للرؤية ، حاروا في الحديث ، ورده بعضهم باضطراب لفظه ، وكل هذا عدول عن موجب الدليل . وقد حكى عثمان بن سعيد الدارمي في كتاب ( الرؤية ) له إجماع الصحابة على أنه لم ير ربه ليلة المعراج . وبعضهم استثنى ابن عباس فيمن قال ذلك . وشيخنا يقول : ليس ذلك بخلاف في الحقيقة . فإن ابن عباس لم يقل رآه بعيني رأسه ، وعليه اعتمد أحمد في إحدى الروايتين حيث قال : إنه صلى الله عليه وسلم رآه عز وجل ، ولم يقل بعيني رأسه . ولفظ أحمد لفظ ابن عباس رضي الله عنهما . ويدل على صحته ما قال شيخنا في معنى حديث أبي ذر رضي الله عنه : قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر ( حجابه النور ) فهذا النور ، والله اعلم . النور المذكور في حديث أبي ذر رضي الله عنه ( رأيت نورا ) .
ثم قال ابن القيم : وقوله تعالى : { مثل نوره كمشكاة فيها مصباح } هذا مثل لنوره في قلب عبده المؤمن . كما قال أبي بن كعب وغيره : وقد اختلف في الضمير في { نوره } فقيل هو النبي صلى الله عليه وسلم . أي مثل نور محمد صلى الله عليه وسلم . وقيل : مفسره المؤمن . أي مثل نور المؤمن . والصحيح أن يعود على الله تعالى . والمعنى : مثل نور الله سبحانه في قلب عبده . وأعظم عباده نصيبا من هذا النور رسول الله صلى الله عليه وسلم . فهذا ، مع ما تضمنه عود الضمير المذكور – وهو وجه الكلام - يتضمن التقادير الثلاثة ، وهو أتم لفظا ومعنى . وهذا النور يضاف إلى الله تعالى . إذ هو معطيه لعبده وواهبه إياه . ويضاف إلى العبد . إذ هو محله وقابله . فيضاف إلى الفاعل والقابل . ولهذا النور فاعل وقابل ، ومحل وحامل ، ومادة . وقد تضمنت الآية ذكر هذه الأمور كلها على وجه التفصيل . فالفاعل وهو الله تعالى مفيض الأنوار . الهادي لنوره من يشاء . والقابل : العبد المؤمن . والمحل : قلبه . والحامل : همته وعزيمته وإرادته . والمادة : قوله وعمله ، وهذا التشبيه العجيب الذي تضمنته الآية ، فيه من الأسرار والمعاني وإظهار تمام نعمته على عبده المؤمن ، بما اناله من نوره ، ما تقر به عيون أهله وتبتهج به قلوبهم . وفي هذا التشبيه لأهل المعاني طريقتان : إحداهما طريقة التشبيه المركب وهي أقرب مأخذا وأسلم من التكلف . وهي أن تشبه الجملة برمتها بنور المؤمن ، من غير تعرض لتفصيل كل جزء من أجزاء المشبه ، ومقابلته بجزء من المشبه به . وعلى هذا عامة أمثال القرآن . فتأمل صفة المشكاة وهي كوة تنفذ لتكون أجمع للضوء ، قد وضع فيها مصباح ، وذلك المصباح داخل زجاجة تشبه الكوكب الدري في صفائها وحسنها . ومادته من أصفى الأدهان وأتمها وقودا ، من زيت شجرة في وسط القراح ، لا شرقية ولا غربية ، بحيث تصيبها الشمس في إحدى طرفي النهار ، بل هي في وسط القراح ، محمية بأطرافها تصيبها الشمس أعدل إصابة . والآفات إلى الأطراف دونها . فمن شدة إضاءة زيتها وصفائها وحسنها ، يكاد يضيء من غير أن تمسه نار . فهذا المجموع المركب هو مثل نور الله تعالى الذي وضعه في قلب عبده المؤمن وخصه به . والطريقة الثانية ، طريقة التشبيه المفصل . فقيل : المشكاة صدر المؤمن . والزجاجة قلبه شبه قلبه بالزجاجة لرقتها وصفائها وصلابتها وكذلك قلب المؤمن فإنه قد جمع الأوصاف الثلاثة . فهو يرحم ويحسن ويتحنن ويشفق على الخلق برقته وبصفائه . تتجلى فيه صور الحقائق والعلوم على ما هي عليه . ويتباعد الكدر والدرن والوسخ بحسب ما فيه من الصفاء ، وبصلابته يشتد في أمر الله تعالى ، ويتصلب في ذات الله تعالى ، ويغلظ على أعداء الله تعالى ، ويقوم بالحق لله تعالى . وقد جعل الله تعالى القلوب كالآنية . كما قال . بعض السلف : القلوب آنية الله في أرضه فأحبها إليه أرقها وأصلبها وأصفاها . والمصباح هو نور الإيمان في قلبه . والشجرة المباركة هي شجرة الوحي المتضمنة للهدى ودين الحق ، وهي مادة المصباح التي يتقد منها . والنور على النور ، نور الفطرة الصحيحة ، والإدراك الصحيح ، ونور الوحي والكتاب . فينضاف أحد النورين إلى الآخر ، فيزداد العبد نورا على نور . ولهذا يكاد ينطق بالحق والحكمة ، قبل أن يسمع ما فيه بالأثر . ثم يبلغه الأثر بمثل ما وقع في قلبه ونطق به . فيتفق عنده شاهد العقل والشرع والفطرة والوحي . فيريه عقله وفطرته وذوقه الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم هو الحق لا يتعارض عنده العقل والنقل البتة . بل يتصادقان ويتوافقان . فهذا علامة النور على النور . انتهى .