غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{۞ٱللَّهُ نُورُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ مَثَلُ نُورِهِۦ كَمِشۡكَوٰةٖ فِيهَا مِصۡبَاحٌۖ ٱلۡمِصۡبَاحُ فِي زُجَاجَةٍۖ ٱلزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوۡكَبٞ دُرِّيّٞ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٖ مُّبَٰرَكَةٖ زَيۡتُونَةٖ لَّا شَرۡقِيَّةٖ وَلَا غَرۡبِيَّةٖ يَكَادُ زَيۡتُهَا يُضِيٓءُ وَلَوۡ لَمۡ تَمۡسَسۡهُ نَارٞۚ نُّورٌ عَلَىٰ نُورٖۚ يَهۡدِي ٱللَّهُ لِنُورِهِۦ مَن يَشَآءُۚ وَيَضۡرِبُ ٱللَّهُ ٱلۡأَمۡثَٰلَ لِلنَّاسِۗ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٞ} (35)

35

التفسير :

أنه سبحانه لما بين من الأحكام ما بين أردفها على عادة القرآن بالإلهيات وقدم لذلك مثلين أحدهما في أن دلائل الإيمان في غاية الظهور ، والثاني أن أديان الكفر في نهاية الظلمة . أما الأول فهو قوله { الله نور السماوات والأرض } واعلم أن النور في اللغة موضوع لهذه الكيفية الفائضة من الشمس والقمر والنار على ما يحاذيها من الأجرام ، لا شك أنه لا يمكن أن يكون إلهاً لأنه إن كان عرضاً فظاهر ، وإن كان جسماً فكذلك للدليل الدال على أن إله العالم ليس بجسم ولا جسماني ولا زائل ولا متنقل إلى غير ذلك من أمارات الحدوث والافتقار ، وعند ذلك ذكر العلماء في تأويل الآية وجوهاً : الأول وهو قول ابن عباس والأكثرين ، أن المضاف محذوف أي هو ذو نور السماوات والأرض لأنه قال { مثل نوره } { ويهدي الله لنوره } والمضاف مغاير للمضاف إليه . فنظير الآية قولك " زيد كرم وجود " للمبالغة . الثاني أن معناه منور السماوات كقراءة من قرأ { نور } بالتشديد وعلى القولين ما المراد بالنور ؟ فالأكثرون على أنه الهداية والحق منا قال في آخر الآية { يهدي الله لنوره من يشاء } شبهه بالنور في ظهوره وبيانه . وأضافه إلى السماوات والأرض للدلالة على سعة إشراقه وفشوّ إضاءته حتى تضيء له السماوات والأرض ، أو على حذف المضاف أي نور أهل السماوات والأرض وقيل : نور السماء بالملائكة وبالأجرام النيرة والأرض بها وبالأنبياء والعلماء وهو مروي عن أبيّ بن كعب والحسن وأبي العالية . وقيل : هو تدبيره إياهما بحكمة كاملة كما يوصف الرئيس المدبر بأنه نور البلد إذا كان يدبر أمورهم تدبيراً حسناً ، فهو لهم كالنور الذي يهتدي به في المضايق والمزالق . وهذا القول اختيار الأصم والزجاج . وقيل : هو نظمه إياهما على النهج الأحسن والوجه الأصلح . وقد يعبر بالنور عن النظام . يقال : ما أرى لهذه الأمور نوراً . الثالث : ما ذهب إليه الحكماء الأولون الإشراقيون وإليه ميل الشيخ الإمام حجة الإسلام محمد الغزالي على ما قرره في رسالته المسماة بمشكاة الأنوار : أن الله تعالى نور في الحقيقة بل لا نور ، إلا هو بيانه أن للإنسان بصراً يدرك به النور المحسوس الواقع من الأجرام النيرة على ظواهر الأجسام الكثيفة ، وبصيرة هي القوة العاقلة ، ولا شك أن البصيرة أقوى من البصر لأن القوة الباصرة لا تردك نفسها ولا تدرك إدراكها ولا تدرك آلتها وهي العين ، وأما لقوة العاقلة فإنها تدرك نفسها وتدرك إدراكها وتدرك آلتها في الإدراك وهي القلب أو الدماغ ، والإدراك الحسي غير منتج لأنه لا يصير سبباً لإحساس آخر ، والإدراك العقلي يصير سبباً لإدراكات أخر حتى تجتمع علوم جمة ، والحس يضطرب بكثرة ورود المحسوسات عليه حتى إنه لا يسمع الصوت الضعيف مثلاً بعد سماع الصوت الشديد ، والعقل يزداد بهاؤه ونورانيته بكثرة توارد العلوم وتعاونها ، والقوة الحسية تضعف بضعف البدن ، والقوة العقلية تقوى بعد الأربعين حتى استدل بذلك على بقائها بعد خراب البدن ، والقوة الحسية لا تدرك من القرب القريب ولا من البعد البعيد ، والعقلية لا يختلف حالها في القرب والبعد فيدرك ما فوق العرش إلى ما تحت الثرى في لحظة واحدة ، بل يدرك ذات الله وصفاته مع أنه منزه عن القرب والبعد والجهة ، والحس لا يدرك من الأشياء إلا ظواهرها ، والعقل يغوص في حقائق الأشياء وفي أجزائها وجزئياتها وفي ذاتياتها وعرضياتها ، فيوحد الكثير تارة بانتزاع صورة كلية من الجزئيات ، ويكثر الواحد أخرى بالتجنيس والتنويع والتصنيف وغير ذلك من التقسيمات التي لا تكاد تتناهى .

وإدراك العقل قد يكون مقدماً على وجود الشيء ويسمى العلم العقلي ، وإدراك الحس تابع لوجود الشيء وإذا كان الروح الباصر نوراً فالبصيرة التي هي أشرف منها أولى بأن تكون نوراً ، وكما أن نور المبصر يحتاج في إدراكه إلى معين من الخارج هو الشمس أو السراج مثلاً ، فنور البصيرة أيضا يحتاج في إدراكه إلى مرشد هو النبي أو القرآن فلذلك سمي القرآن نوراً { والنور الذي أنزلنا } [ التغابن : 8 ] والنبي نوراً { وسراجاً منيراً } [ الأحزاب : 46 ] فروح النبي في عالم الأرواح كالشمس في عالم الأجسام . ثم إن الأنوار النبوية القدسية مقتبسة من أنوار أخرى فوقها لقوله

{ علمه شديد القوى } [ النجم : 5 ] { قل نزله روح القدس من ربك } [ النحل : 102 ] فكل الأنوار تنتهي إلى مالا نور أنور منه ولا أجل وأشرف وهو الله سبحانه . والكلام المجمل في هذا المقام هو الذي قد سلف تحقيقه مراراً وهو أن الكمالات أنوار والملكات الذميمة ظلمات . وأيضاً الوجود نور والعدم ظلمة ، فإن نظرنا إلى الكمال فكل كمال ينتهي إلى الله سبحانه ولا كمال فوق كماله ، فهو نور الأنوار . وإن نظرنا إلى الوجود نفسه فلا ريب أن الممكن وجوده مستفاد من غيره إلى أن ينتهي إلى واجب الوجود لذاته وهو نور الأنوار ، فسبحان من اختفى عن الخلق لشدة ظهوره ، واحتجب عنهم بإشراق نوره ، ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم " إن الله سبعين حجاباً من نور وظلمة لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه كل ما أدرك بصره " وفي بعض الروايات سبعمائة وفي بعضها سبعون ألفا . قال العلماء : الحجب ثلاثة أقسام : حجب ظلمانية محضة ، وحجب ممزوجة من نور وظلمة ، وحجب نورانية صرفة ، أما المحجوبون بالأول فهم الذين بلغوا في الاشتغال بالعلائق البدنية إلى حيث لا يلتفت خاطرهم إلى الاستدلال بالمصنوعات على الصانع . وأما المحجوبون بالثاني فهم الذين اعتقدوا في الممكنات أنها غنية عن المؤثر ، فنفس تصور الاستغناء عن الغير نور لأنه من صفات الله تعالى ، ولكن اعتقاد حصوله لمن لا يليق به ظلمة فهذا حجاب ممزوج من نور وظلمة ، وأما المحجوبون بالثالث فهم الذين استغرقوا في بحار صفات الله وأفعاله فاحتجبوا بالصفات عن الذات ، فعرف من هذا التقرير أن الحجب لا تكاد تتناهى حيث لا نهاية للمكنات ولا انحصار للسلوب والإضافات ، ولكن الحديث ورد على ما هو المتعارف في باب التكثير .

ولنرجع إلى التفسير قال الفراء : المشكاة الكوة في الجدار غير النافذة وهذا القول أصح عند أئمة اللغة وهي من لغة العرب ومنه المشكاة للزق الصغير . وقيل : هي بلغة الحبشة ، وعن ابن عباس وأبي موسى الأشعري أن المشكاة هي القائم الذي في وسط القنديل الذي يدخل فيه الفتيلة وهو قول مجاهد والقرطبي ، ومثله قول الزجاج هي قصبة القنديل من الزجاجة التي يوضع فيها الفتيلة . وقال الضحاك : هي الحلقة التي يتعلق بها القنديل والمصباح السراج الضخم الثاقب وأصله من الضوء ومنه الصبح والدريّ فمن قرأ بضم الدال وتشديد الياء منسوب إلى الدر أي أبيض متلألئ ، ومن قرأ بالهمز مضموم الدال كمرّيق أو مكسورها كسكيت ، فمعناه أنه يدرأ الظلام بضوئه . وقال أبو عبيد : إن ضممت الدال وجب أن لا تهمز لأنه ليس في كلام العرب " فعيل " . ومن همزة من القراء فإنما أراد " فعول " على سبوح فاستثقل فرد بعضه إلى الكسر . والدراري من الكواكب هي المشاهير كالمشتري والزهرة والمريخ وما يضاهيها من الثوابت التي هي في العظم الأول . ومعنى { من شجرة مباركة } أن ابتداء ثقوبه من شجرة مباركة كثيرة المنافع وهي الزيتون . عن النبي صلى الله عليه وسلم " عليكم بهذه الشجرة زيت الزيتون فتداووا به فإنها مصحة من الباسور " وقيل : سميت مباركة لأنها تنبت في الأرض التي بارك الله فيها للعالمين ، أو بارك فيها سبعون نبياً منهم إبراهيم عليه السلام فقوله { زيتونة } بدل من { شجرة } ومعنى { لا شرقية ولا غربية } أن منبتها في أكثر الشام وزيتونها أجود الزيتون والشام قريب من وسط العمارة ليس على الطرف الشرقي من الربع المسكون ولا على الطرف الغربي منه ، وعن الحسن أراد شجرة الزيتون في الجنة إذ لو كانت من شجر الدنيا لكانت إما شرقية أو غربية . وضعف بأن المثل إنما يضرب بما يشاهد وإنهم ما شاهدوا شجرة الجنة ، وقيل : أراد أنها شجرة ملفوفة بالأشجار أو بأوراقها فلا تصيبها الشمس في مشرق ولا مغرب . وزيف بأن الغرض هو صفاء الزيت ولا يحصل إلا بكمال النضج وذلك يتوقف عادة على وصول أثر الشمس إلى الشجرة ، وعن ابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة وهو اختيار الفراء والزجاج : المراد أنها ليست مما تطلع عليه الشمس في وقت شروقها أو غروبها فقط ، بل تصيبها بالغداة والعشي جميعاً لأنها في موضع مكشوف ، فيكون فيه دليل على كمال النضج الموجب لصفاء الزيت . ومنهم من قال : لا في مضحى ولا في مقنأة وهي المكان الذي لا تطلع عليه الشمس ولكن الظل والشمس يتعاقبان عليها وذلك أجود لكمال الثمرة ، قال صلى الله عليه وسلم

" لا خير في شجرة في مقنأة ولا نبات في مقنأة ولا خير في مضحى " ثم وصف الزيت بالصفاء والبريق وأنه لتلألئه يكاد يضيء من غير نار ، فإذا مسته النار ازداد ضوءاً على ضوء .

فهذا ما يتعلق بحل الألفاظ على ظاهر التفسير ، أما ما يتعلق بالمعنى فنقول : إن جمهور المتكلمين ذهبوا إلى أنه تعالى شبه الهداية وهي الآيات البينات في الظهور والجلاء ، بالمشكاة التي تكون فيها زجاجة صافية ، وفي الزجاجة مصباح يتقد بزيت بلغ النهاية في الصفاء . وإنما اختار هذا التشبيه دون أن يقول إنها كالشمس في الظهور والوضوح لأن الغالب على أوهام الخلق وخيالاتهم إنما هو الشبهات التي هي كالظلمات وهداية الله تعالى فيما بينها كالضوء الكامل ، وهذا المقصود لا يحصل من ضرب المثل بالشمس لأنها إذا طلعت لم تبق ظلمة أصلاً . والأمور التي اعتبرها الله سبحانه في هذا المثال منها كون المصباح في المشكاة وذلك ليكون أجمع للنور وأعون لتكاثف الأشعة وأصون له عن تعرض الرياح . زعم بعضهم أن في الكلام قلباً والمراد كمصباح في مكشاة والصحيح أنه لا حاجة إليه لأن هذا تشبيه مركب ، ولهذا قال جار الله : أراد صفة نوره العجيبة الشأن في الإضاءة كصفة مشكاة ، ومنها كون المصباح في زجاجة صافية ، فإن تعاكس الأنوار من جوانب الزجاجة يزيد المصباح نوراً . ومنها كون المصباح متقداً بدهن الزيت فليس في الأدهان ما يدانيه في اللمعان والتطويس . ومنها كون الزيت من شجرة بارزة للشمس فإن ذلك يدل على كما نضج الثمرة ونهاية صفاء ذهنها . وأما الإمام الغزالي رضي الله عنه فإنه يقول : المشكاة والزجاجة والمصباح والشجرة والزيت عبارة عن المراتب الخمس الإنسانية . فأولها القوة الحساسة التي هي أصل الروح الحيواني وتوجد للصبي بل لكل حيوان ، وأوفق مثال لها من عالم الأجسام المشكاة لأن تلك القوى تخرج من عدة ثقب كالعينين والأذنين والمنخرين والفم . وثانيها القوة الخيالية التي تحفظ ما يورده الحواس مخزوناً عندها لتعرضه على القوة العقلية التي فوقها عند الحاجة إليه ، وأنت لا تجد شيئاً في عالم الأجسام يشبه الخيال سوى الزجاجة فإنها في الأصل جوهر كثيف ولكن صفي ورقق حتى صار بحيث لا يحجب نور المصباح بل يؤديه على وجهه ، ثم يحفظه عن الانطفاء بالرياح العاصفة . كذلك الخيال من طينة العالم السفلي الكثيف بدليل أن الشيء المتخيل ذو قدر وشكل وحدّ ، ولكنه إذا صفي وهذب صار موازياً للمعاني العقلية ومؤدياً لأنوارها ، ولذلك يستدل المعبر بالصور الخيالية على المعاني كما يستدل بالشمس على الملك ، وبالقمر على الوزير ، وبمن يختم فروج الناس وأفواههم على أنه مؤذن يؤذن في رمضان قبل الصبح . وثالثها القوة العقلية القوية على إدراك الماهيات الكلية والمعارف اليقينية ولا يخفى وجه تمثيله بالمصباح كما مر في تسمية النبي سراجاً . وحين كان الحس كالمقدمة للخيال وهي كالمقدمة للعقل قيل : إن المشكاة كالظرف للزجاجة التي هي كالظرف للمصباح . ورابعها القوة الفكرية القوية على التقسيمات والاستنتاجات فمثالها مثال الشجرة المثمرة ، وإذا كانت ثمرتها مادة ازدياد أنوار المعارف فبالحري أن لا تشبه إلا بشجرة الزيتون ، لأن لب ثمرتها هو الزيت الذي هو مادة المصباح وله من سائر الأدهان خاصية زيادة الإشراق وقلة الدخان . وإذا كانت الماشية تسمى مباركة لكثرة درها ونسلها فالذي لا تتناهى ثمرته غلى حد محدود أولى أن يسمى مباركاً . وإذا كانت شعب الأفكار العقلية المحضة مجردة عن لواحق الأجسام ناسب أن يقال لها { لا شرقية ولا غربية } وخامسها القوة القدسية النبوية التي { يكاد زيها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور } . وأما الشيخ الرئيس أو علي بن سينا فإنه نزل الأمثلة الخمسة على مراتب إدراكات النفس الإنسانية المشهورة . فالمشكاة هي العقل الهيولاني وهو الاستعداد المحض ، والزجاجة هي العقل بالملكة وهي قوة النفس حين حصل لها البديهيات وأمكن لها بواسطتها الترقي إلى النظريات والانتقال إلى الكسبيات . ثم إن كان الانتقال ضعيفاً فهي الشجرة وتسمى فكراً وإن كان قوياً فهي الزيت ويسمى حدساً ، وإن كان في النهاية القصوى سميت قوة قدسية وهي التي { يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور } ثم إذا حصل لها المعارف والعلوم المكتسبة بالفعل بحيث تقدر على ملاحظتها متى شاءت من غير تجشم كسب جديد فهو المصباح ويسمى عقلاً بالفعل ، وغايته أن تكون المعقولات حاضرة عندها متمثلة لها كأنها تشاهدها وهي نور على نور ويسمى عقلاً مستفاداً . أما الأول فلأن الملكة نور ومشاهدة تلك الملكة نور آخر ، وأما الثاني فلأن ذلك غاية الاستفادة ونهاية التحصيل . وزعم الشيخ أبو علي أن المخرج من العقل الهيولاني إلى الملكة ثم منها إلى العقل التام هو العقل الفعال مدبر ما تحت كرة القمر عند الحكماء ، وعبر عنه في الآية بالنار . وعن مقاتل أنه قال { مثل نوره } أي مثل نور الإيمان في قلب محمد كمشكاة فيها مصباح فالمشكاة نظير صلب عبد الله ، والزجاجة نظير جسد محمد ، والشجرة النبوة والرسالة . وقيل : المشكاة نظير إبراهيم عليه السلام ، والزجاجة نظير إسماعيل والمصباح نظير جسد محمد وعن أبي بن كعب أنه قرأ { مثل نور من آمن به } ورأيت في كتب الشيعة عن علي رضي الله عنه مرفوعاً للقمر وجهان يضيء بهما أهل السماوات والأرضين وعلى الوجهين مكتوب أتدرون ما كتابته ؟ فقالوا : الله ورسوله أعلم . فقال : على وجه السماوات { الله نور السماوات والأرض } وعلى وجه الأرض محمد وعلي نور الأرضين . وقيل : المشكاة صدر محمد صلى الله عليه وسلم والزجاجة قلبه ، والمصباح ما في قلبه من الدين ، والشجرة إبراهيم عليه السلام ، { ويوقد من شجرة } كقوله فاتبعوا ملة إبراهيم } [ آل عمران : 95 ] ومعنى { لا شرقية ولا غربية } أن إبراهيم لم يكن يصلي قبل المشرق كالنصارى ولا قبل المغرب كاليهود بل كان يصلي قبل الكعبة وهي ما بين المشرق والمغرب ومعنى { يكاد زيتها يضيء } أن نور محمد يكاد يتبين للناس قبل أن يتكلم قاله كعب . وقال الضحاك : يكاد محمد يتكلم بالحكمة قبل الوحي ومن هنا قال عبد الله بن رواحة :

لو لم يكن فيه آيات مبينة *** كانت بديهته تنبيك بالخبر

وقال يحيى بن سلام : قلب المؤمن نوريّ يعرف الحق قبل أن يتبين لموافقته له وهو المراد من قوله صلى الله عليه وسلم " اتقوا فراسة المؤمن فإِنه ينظر بنور الله " وقيل : يكاد قلب المؤمن يعمل بالهدى قبل أن يأتيه العلم به ولهذا يزداد نوراً على نور . قال أبي بن كعب : المؤمن بين أربع خلال : إن أعطي شكر وإن ابتلي صبر وإن قال صدق وإن حكم عدل . فهو في سائر الناس كالرجل الحي الذي يمشي بين أموات يتقلب في خمس من النور : كلامه نور ، وعلمه نور ومدخله نور ، ومخرجه نور ، ومصيره إلى النور يوم القيامة . قال الربيع : سألت أبا العالية عن مدخله ومخرجه فقال : سره وعلانيته .

قالت الأشاعرة في قوله { يهدي الله لنوره من يشاء } إشارة إلى أن هذه الدلائل مع وضوحها لا تكفي ولا تنفع ما لم يخلق الله الإيمان فيه ، وقالت المعتزلة : أراد يهدي الله لطريق الجنة ، أو أراد بقوله { من يشاء } الذين بلغهم حد التكليف والهدى محمول على زيادات الألطاف التي هي ضد الخذلان ولهذا قال في الكشاف : معناه يوفق . لإصابة الحق من نظر وتدبر معنى الإنصاف ، وجانب جانب المراء والاعتساف ، ولم يكن كالأعمى الذي يستوي عنده جنح الليل الدامس وضحوة النهار الشامس وأكدوا ذلك بقوله { ويضرب الله الأمثال للناس } يعني النبي والمكلفين من أمته قالوا : إنما ذكره في معرض الإنعام ولو كان الكل بخلق الله تعالى لما تمكنوا من الانتفاع بالمثل فلا يكون نعمة . ثم زاد التأكيد بقوله { والله بكل شيء عليم } ففيه تحذير لمن لا يتفكر ولا يعتبر ولا يستدل ولا ينظر .

/خ50