قوله تعالى : { الله نور السموات والأرض } الآية{[11955]}
النور في كلام العرب : الأضواء المدركة بالبصر . واستعمل مجازا فيما صح من المعاني ولاح فيقال منه : كلام له نور . ومنه : الكتاب المنير ، ومنه قول الشاعر :
نسب كأن عليه من شمس الضحا *** نورا ومن فَلَقِ الصباح عمودَا
والناس يقولون : فلان نور البلد ، وشمس العصر وقمره . وقال :
فإنك{[11956]}شمس والملوك كواكب
هلاَّ خصصت من البلاد بمقصد *** قمرَ القبائل خالد بن يزيد
إذا سار عبد الله من مَروَ ليلة *** فقد سار منها نورها وجمالها
فيجوز أن يقال : لله تعالى نور من جهة المدح لأنه أوجد الأشياء ونور جميع الأشياء منه ابتداؤها وعنه صدورها وهو سبحانه ليس من الأضواء المدركة جل وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا . وقد قال هشام الجوالقي وطائفة من المجسمة : هو نور لا كالأنوار ، وجسم لا كالأجسام . وهذا كله محال على الله تعالى عقلا ونقلا على ما يعرف في موضعه من علم الكلام . ثم إن قولهم متناقض ، فإن قولهم جسم أو نور حكم عليه بحقيقة ذلك ، وقولهم لا كالأنوار ولا كالأجسام نفي لما أثبتوه من الجسمية والنور ، وذلك متناقض ، وتحقيقه في علم الكلام . والذي أوقعهم في ذلك ظواهر اتبعوها منها هذه الآية ، وقول عليه السلام إذا قام من الليل يتهجد ( اللهم لك الحمد أنت نور السموات والأرض ) . وقال عليه السلام وقد سئل : هل رأيت ربك ؟ فقال : ( رأيت نورا ) . إلى غير ذلك من الأحاديث . واختلف العلماء في تأويل هذه الآية ، فقيل : المعنى أي به وبقدرته أنارت أضواؤها ، واستقامت أمورها ، وقامت مصنوعاتها . فالكلام على التقريب للذهن ، كما يقال : الملك نور أهل البلد ، أي به قوام أمرها وصلاح جملتها ؛ لجريان أموره على سنن السداد . فهو في الملك مجاز ، وهو في صفة الله حقيقة محضة ، إذ هو الذي أبدع الموجودات وخلق العقل نورا هاديا ؛ لأن ظهور الموجود به حصل كما حصل بالضوء ظهور المبصرات ، تبارك وتعالى لا رب غيره . قال معناه مجاهد والزهري وغيرهما . قال ابن عرفة : أي منور السموات والأرض . وكذا قال الضحاك والقرظي . كما يقولون : فلان غياثنا ، أي مغيثنا . وفلان زادي ، أي مزودي . قال جرير :
وأنت لنا نور وغَيْثٌ وعصمةٌ *** ونبتٌ لمن يرجو نداك وريقُ
أي ذو وَرق . وقال مجاهد : مدبر الأمور في السموات والأرض . أبيّ بن كعب والحسن وأبو العالية : مزين السموات بالشمس والقمر والنجوم ، ومزين الأرض بالأنبياء والعلماء والمؤمنين . وقال ابن عباس وأنس : المعنى الله هادي أهل السموات والأرض . والأول أعم للمعاني وأصح مع التأويل .
قوله تعالى : " مثل نوره " أي صفة دلائله التي يقذفها في قلب المؤمن ، والدلائل تسمى نورا . وقد سمى الله تعالى كتابه نورا فقال : " وأنزلنا إليكم نورا مبينا " {[11957]} [ النساء : 174 ] وسمى نبيه نورا فقال : " قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين " [ المائدة : 15 ] . وهذا لأن الكتاب يهدي ويبين ، وكذلك الرسول . ووجه الإضافة إلى الله تعالى أنه مثبت الدلالة ومبينها وواضعها . وتحتمل الآية معنى آخر ليس فيه مقابلة جزء من المثال بجزء من الممثل به ، بل وقع التشبيه فيه جملة بجملة ، وذلك أن يريد مثل نور الله الذي هو هداه وإتقانه صنعة كل مخلوق وبراهينه الساطعة على الجملة ، كهذه الجملة من النور الذي تتخذونه أنتم على هذه الصفة ، التي هي أبلغ صفات النور الذي بين أيدي الناس ، فمثل نور الله في الوضوح كهذا الذي هو منتهاكم أيها البشر . والمشكاة : الكوة في الحائط غير النافذة ، قاله ابن جبير وجمهور المفسرين ، وهي أجمع للضوء ، والمصباح فيها أكثر إنارة منه في غيرها ، وأصلها الوعاء يجعل فيه الشيء . والمشكاة وعاء من أدم كالدلو يبرد فيها الماء ؛ وهو على وزن مفعلة كالمقراة{[11958]} والمصفاة . قال الشاعر :
كأن عينيه مشكاتان في حجر *** قِيضا اقتياضا بأطراف المناقير{[11959]}
وقيل : المشكاة عمود القنديل الذي فيه الفتيلة . وقال مجاهد : هي القنديل . وقال " في زجاجة " لأنه جسم شفاف ، والمصباح فيه أنور منه في غير الزجاج . والمصباح : الفتيل بناره " كأنها كوكب دري " أي في الإنارة والضوء . وذلك يحتمل معنيين : إما أن يريد أنها بالمصباح كذلك ، وإما أن يريد أنها في نفسها لصفائها وجودة جوهرها كذلك . وهذا التأويل أبلغ في التعاون على النور . قال الضحاك : الكوكب الدري هو الزهرة .
قوله تعالى : " يوقد من شجرة مباركة " أي من زيت شجرة ، فحذف المضاف . والمباركة المنماة ، والزيتون من أعظم الثمار نماء ، والرمان كذلك . والمعنى{[11960]} يقتضي ذلك . وقول أبي طالب يرثي مسافر بن أبي عمرو بن أمية بن عبد شمس :
ليت شعري مسافرَ بن أبي عم *** رو وليتٌ يقولها المحزونُ
بورك الميت الغريب كما بو *** رك نبعُ الرمان والزيتونُ
وقيل : من بركتهما أن أغصانهما تورق من أسفلها إلى أعلاها . وقال ابن عباس : في الزيتونة منافع ، يسرج بالزيت ، وهو إدام ودهان ودباغ ، ووقود يوقد بحطبه وتفله ، وليس فيه شيء إلا وفيه منفعة ، حتى الرماد يغسل به الإبريسم{[11961]} . وهي أول شجرة نبتت في الدنيا ، وأول شجرة نبتت بعد الطوفان ، وتنبت في منازل الأنبياء والأرض المقدسة ، ودعا لها سبعون نبيا بالبركة ؛ منهم إبراهيم ، ومنهم محمد صلى الله عليه وسلم فإنه قال{[11962]} : ( اللهم بارك في الزيت والزيتون ) . قاله مرتين{[11963]} .
قوله تعالى : " لا شرقية ولا غربية " اختلف العلماء في قوله تعالى : " لا شرقية ولا غربية " فقال ابن عباس وعكرمة وقتادة وغيرهم : الشرقية التي تصيبها الشمس إذا شرقت ولا تصيبها إذا غربت لأن لها سترا . والغربية عكسها ، أي أنها شجرة في صحراء ومنكشف من الأرض لا يواريها عن الشمس شيء وهو أجود لزيتها ، فليست خالصة للشرق فتسمى شرقية ولا للغرب فتسمى غربية ، بل هي شرقية غربية . وقال الطبري عن ابن عباس : إنها شجرة في دوحة قد أحاطت بها ، فهي غير منكشفة من جهة الشرق ولا من جهة الغرب . قال ابن عطية : وهذا قول لا يصح عن ابن عباس ؛ لأن الثمرة التي بهذه الصفة يفسد جناها وذلك مشاهد في الوجود . وقال الحسن : ليست هذه الشجرة من شجر الدنيا ، وإنما هو مثل ضربه الله تعالى لنوره ، ولو كانت في الدنيا لكانت إما شرقية وإما غربية . الثعلبي : وقد أفصح القرآن بأنها من شجر الدنيا ؛ لأنها بدل من الشجرة ، فقال " زيتونة " . وقال ابن زيد : إنها من شجر الشأم ، فإن شجر الشأم لا شرقي ولا غربي ، وشجر الشأم هو أفضل الشجر ، وهي الأرض المباركة ، و " شرقية " نعت " لزيتونة " و " لا " ليست تحول بين النعت والمنعوت ، " ولا غربية " عطف عليه .
قوله تعالى : " يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار " مبالغة في حسنه وصفائه وجودته . " نور على نور " أي اجتمع في المشكاة ضوء المصباح إلى ضوء الزجاجة وإلى ضوء الزيت ، فصار لذلك نور على نور . واعتقلت هذه الأنوار في المشكاة فصارت كأنور ما يكون فكذلك براهين الله تعالى واضحة وهي برهان بعد برهان ، وتنبيه بعد تنبيه ، كإرساله الرسل وإنزاله الكتب ، ومواعظ تتكرر فيها لمن له عقل معتبر . ثم ذكر تعالى هداه لنوره من شاء وأسعد من عباده ، وذكر تفضله لعباد في ضرب الأمثال لتقع لهم العبرة والنظر المؤدي إلى الإيمان . وقرأ عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة وأبو عبد الرحمن السلمي " الله نور " بفتح النون والواو المشددة . واختلف المتأولون في عود الضمير في " نوره " على من يعود ، فقال كعب الأحبار وابن جبير : هو عائد على محمد صلى الله عليه وسلم ، أي مثل نور محمد صلى الله عليه وسلم . قال ابن الأنباري : " الله نور السموات والأرض " وقف حسن ، ثم تبتدئ " مثل نوره كمشكاة فيها مصباح " على معنى نور محمد صلى . وقال أبي بن كعب وابن جبير أيضا والضحاك : هو عائد على المؤمنين . وفي قراءة أبيّ " مثل نور المؤمنين " . وروي أن في قراءته " مثل نور المؤمن " . وروي أن فيها " مثل نور من آمن به " . وقال الحسن : هو عائد على القرآن والإيمان . قال مكي : وعلى هذه الأقوال يوقف على قوله : " والأرض " . قال ابن عطية : وهذه الأقوال فيها عود الضمير على من لم يجر له ذكر ، وفيها مقابلة جزء من المثال بجزء من الممثل فعلى من قال : الممثل به محمد صلى الله عليه وسلم ، وهو قول كعب الحبر{[11964]} ، فرسول الله صلى الله عليه وسلم هو المشكاة أو صدره والمصباح هو النبوة وما يتصل بها من عمله{[11965]} وهداه ، والزجاجة قلبه ، والشجرة المباركة هي الوحي ، والملائكة رسل الله إليه وسببه المتصل به ، والزيت هو الحجج والبراهين والآيات التي تضمنها الوحي . ومن قال : الممثل به المؤمن ، وهو قول أبيّ ، فالمشكاة صدره ، والمصباح الإيمان والعلم ، والزجاجة قلبه ، وزيتها هو الحجج والحكمة التي تضمنها . قال أبيّ : فهو على أحسن الحال يمشي في الناس كالرجل الحي يمشي في قبور الأموات . ومن قال : إن الممثل به هو القرآن والإيمان ، فتقدير الكلام : مثل نوره الذي هو الإيمان في صدر المؤمن في قلبه كمشكاة ، أي كهذه الجملة . وهذا القول ليس في مقابلة التشبيه كالأولين ؛ لأن المشكاة ليست تقابل الإيمان . وقالت طائفة : الضمير في " نوره " عائد على الله تعالى . وهذا قول ابن عباس فيما ذكر الثعلبي والماوردي والمهدوي ، وقد تقدم معناه . ولا يوقف على هذا القول على " الأرض " . قال المهدوي : الهاء لله عز وجل ، والتقدير : الله هادي أهل السموات والأرض ، مثل هداه في قلوب المؤمنين كمشكاة ، وروي ذلك عن ابن عباس . وكذلك قال زيد بن أسلم ، والحسن : إن الهاء لله عز وجل . وكان أبيّ وابن مسعود يقرآنها " مثل نوره في قلب المؤمن كمشكاة " . قال محمد بن علي الترمذي : فأما غيرهما فلم يقرأها في التنزيل هكذا ، وقد وافقهما في التأويل أن ذلك نوره قلب المؤمن ، وتصديقه في آية أخرى يقول : " أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من{[11966]} ربه " [ الزمر : 22 ] . واعتل الأولون بأن قالوا : لا يجوز أن يكون الهاء لله عز وجل ؛ لأن الله عز وجل لا حدّ لنوره . وأمال الكسائي فيما روى عنه أبو عمر الدوري الألف من " مشكاة " وكسر الكاف التي قبلها . وقرأ نصر بن عاصم " زجاجة " بفتح الزاي و " الزجاجة " كذلك ، وهي لغة . وقرأ ابن عامر وحفص عن عاصم " دري " بضم الدال وشد الياء ، ولهذه القراءة وجهان : إما أن ينسب الكوكب إلى الدر لبياضه وصفائه ، وإما أن يكون أصله دريء مهموز ، فعيل من الدرء وهو الدفع ، وخففت الهمزة . ويقال للنجوم العظام التي لا تعرف أسماؤها : الدراري ، بغير همز فلعلهم خففوا الهمزة ، والأصل من الدرء الذي هو الدفع . وقرأ حمزة وأبو بكر عن عاصم " دريء " بالهمز والمد ، وهو فعيل من الدرء ، بمعنى أنها يدفع بعضها بعضا . وقرأ الكسائي وأبو عمرو " دريء " بكسر الدال والهمز من الدرء والدفع ، مثل السكير والفسيق . قال سيبويه : أي يدفع بعض ضوئه بعضا من لمعانه . قال النحاس : وضعف أبو عبيد قراءة أبي عمرو والكسائي تضعيفا شديدا ، لأنه تأولها من درأت أي دفعت ، أي كوكب يجري من الأفق إلى الأفق . وإذا كان التأويل على ما تأوله لم يكن في الكلام فائدة ، ولا كان لهذا الكوكب مزية على أكثر الكواكب ، ألا ترى أنه لا يقال جاءني إنسان من بني آدم . ولا ينبغي أن يتأول لمثل أبي عمرو والكسائي مع علمهما وجلالتهما هذا التأويل البعيد ، ولكن التأويل لهما على ما روي عن محمد بن يزيد أن معناهما في ذلك : كوكب مندفع بالنور ، كما يقال : اندرأ الحريق أن اندفع . وهذا تأويل صحيح لهذه القراءة . وحكى سعيد بن مسعدة أنه يقال : درأ الكوكب بضوئه إذا امتد ضوءه وعلا . وقال الجوهري في الصحاح : ودرأ علينا فلان يدرأ دروءا أي طلع مفاجأة . ومنه كوكب دريء ، على فعيل ، مثل سكير وخمير ؛ لشدة توقده وتلألئه . وقد درأ الكوكب دروءا . قال أبو عمرو بن العلاء : سألت رجلا من سعد بن بكر من أهل ذات عرق فقلت : هذا الكوكب الضخم ما تسمونه ؟ قال : الدريء ، وكان من أفصح الناس . قال النحاس : فأما قراءة حمزة فأهل اللغة جميعا قالوا : هي لحن لا تجوز ؛ لأنه ليس في كلام العرب اسم على فُعِّيل . وقد اعترض أبو عبيد في هذا فاحتج لحمزة فقال : ليس هو فُعِّيل وإنما هو فعول ، مثل سبوح ، أبدل من الواو ياء ، كما قالوا : عُتيٌّ .
قال أبو جعفر النحاس : وهذا الاعتراض والاحتجاج من أعظم الغلط وأشده ؛ لأن هذا لا يجوز البتة ، ولو جاز ما قال لقيل في سُبّوح{[11967]}سُبّيح ، وهذا لا يقوله أحد ، وليس عتي من هذا ، والفرق بينهما واضح بين ؛ لأنه ليس يخلو عُتيٌّ من إحدى جهتين : إما أن يكون جمع عات فيكون البدل فيه لازما ، لأن الجمع باب تغيير ، والواو لا تكون طرفا في الأسماء وقبلها ضمة ، فلما كان قبل هذه ساكن وقبل الساكن ضمة والساكن ليس بحاجز حصين أبدل من الضمة كسرة فقلبت الواو ياء . وإن كان عُتيٌّ واحدا كان بالواو أولى ، وجاز قلبها لأنها طرف ، والواو في فعول ليست طرفا فلا يجوز قلبها . قال الجوهري : قال أبو عبيد إن ضممت الدال قلت دري ، يكون منسوبا إلى الدر ، على فعلي ولم تهمزه لأنه ليس في كلام العرب فعيل . ومن همزه من القراء فإنما أراد فعولا مثل سبوح فاستثقل[ لكثرة الضمات ]{[11968]}فرد بعضه إلى الكسر . وحكى الأخفش عن بعضهم " دريء " من درأته ، وهمزها وجعلها على فعيل مفتوحة الأول . قال : وذلك من تلألئه . قال الثعلبي : وقرأ سعيد بن المسيب وأبو رجاء " دريء " بفتح الدال مهموزا . قال أبو حاتم : هذا خطأ لأنه ليس في الكلام فعيل ، فإن صح عنهما فهما حجة . " يوقد " قرأ شيبة ونافع وأيوب وسلام وابن عامر وأهل الشام وحفص " يوقد " بياء مضمومة وتخفيف القاف وضم الدال . وقرأ الحسن والسلمي وأبو جعفر وأبو عمرو بن العلاء البصري " توقد " مفتوحة الحروف كلها مشددة القاف ، واختارها أبو حاتم وأبو عبيد . قال النحاس : وهاتان القراءتان متقاربتان ؛ لأنهما جميعا للمصباح ، وهو أشبه بهذا الوصف ؛ لأنه الذي ينير ويضيء ، وإنما الزجاجة وعاء له . و " توقد " فعل ماض من توقد يتوقد ، ويوقد فعل مستقبل من أوقد يوقد . وقرأ نصر بن عاصم " توقد " والأصل على قراءته تتوقد حذف إحدى التاءين لأن الأخرى تدل عليها . وقرأ الكوفيون " توقد " بالتاء يعنون الزجاجة . فهاتان القراءتان على تأنيث الزجاجة .
قوله تعالى : " من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية " تقدم القول فيه . " يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور " على تأنيث النار . وزعم أبو عبيد أنه لا يعرف إلا هذه القراءة . وحكى أبو حاتم أن السدي روى عن أبي مالك عن ابن عباس أنه قرأ " ولو لم يمسسه نار " بالياء . قال محمد بن يزيد : التذكير على أنه تأنيث غير حقيقي ، وكذا سبيل المؤنث عنده . وقال ابن عمر : المشكاة جوف محمد صلى الله عليه وسلم ، والزجاجة قلبه ، والمصباح النور الذي جعله الله تعالى في قلبه يوقد شجرة مباركة ، أي أن أصله من إبراهيم وهو شجرته ، فأوقد الله تعالى في قلب محمد صلى الله عليه وسلم النور كما جعله في قلب إبراهيم عليه السلام . وقال محمد بن كعب : المشكاة إبراهيم ، والزجاجة إسماعيل ، والمصباح محمد صلوات الله عليهم أجمعين ، سماه الله تعالى مصباحا كما سماه سراجا فقال : " وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا " {[11969]} [ الأحزاب : 46 ] يوقد من شجرة مباركة وهي آدم عليه السلام ، بورك في نسله وكثر منه الأنبياء والأولياء . وقيل : هي إبراهيم عليه السلام ، سماه الله تعالى مباركا لأن أكثر الأنبياء كانوا من صلبه . " لا شرقية ولا غربية " أي لم يكن يهوديا ولا نصرانيا وإنما كان حنيفا مسلما . وإنما قال ذلك لأن اليهود تصلي قبل المغرب والنصارى تصلي فبل المشرق . " يكاد زيتها يضيء " أي يكاد محاسن محمد صلى الله عليه وسلم تظهر للناس قبل أن أوحى الله تعالى إليه . " نور على نور " نبي من نسل نبي . وقال الضحاك : شبه عبد المطلب بالمشكاة وعبد الله بالزجاجة والنبي صلى الله عليه وسلم بالمصباح كان في قلبهما ، فورث النبوة من إبراهيم . " من شجرة " أي شجرة التقى والرضوان وعشيرة الهدى والإيمان ، شجرة أصلها نبوة ، وفرعها مروءة ، وأغصانها تنزيل ، وورقها تأويل ، وخدمها جبريل وميكائيل . قال القاضي أبو بكر بن العربي : ومن غريب الأمر أن بعض الفقهاء قال إن هذا مثل ضربه الله تعالى لإبراهيم ومحمد ولعبد المطلب وابنه عبد الله ، فالمشكاة هي الكوة بلغة الحبشة ، فشبه عبد المطلب بالمشكاة فيها القنديل وهو الزجاجة ، وشبه عبد الله بالقنديل وهو الزجاجة ، ومحمد كالمصباح يعني من أصلابهما ، وكأنه كوكب دري وهو المشتري " يوقد من شجرة مباركة " يعني إرث النبوة من إبراهيم عليه السلام هو الشجرة المباركة ، يعني حنيفية لا شرقية ولا غربية ، لا يهودية ولا نصرانية . " يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار " يقول : يكاد إبراهيم يتكلم بالوحي من قبل أن يوحي إليه . " نور على نور " إبراهيم ثم محمد صلى الله عليه وسلم . قال القاضي : وهذا كله عدول عن الظاهر ، وليس يمتنع في التمثيل أن يتوسع المرء فيه .
قلت : وكذلك في جميع الأقوال لعدم ارتباطه بالآية ما عدا القول الأول ، وأن هذا مثل ضربه الله تعالى لنوره ، ولا يمكن أن يضرب لنوره المعظم مثلا تنبيها لخلقه إلا ببعض خلقه ؛ لأن الخلق لقصورهم لا يفهمون إلا بأنفسهم ومن أنفسهم ، ولولا ذلك ما عرف الله إلا الله وحده ، قاله ابن العربي . قال ابن عباس : هذا مثل نور الله وهداه في قلب المؤمن كما يكاد الزيت الصافي يضيء قبل أن تمسه النار ، فإن مسته النار زاد ضوءه ، كذلك قلب المؤمن يكاد يعمل بالهدى قبل أن يأتيه العلم ، فإذا جاءه العلم زاده هدى على هدى ونورا على نور ، كقول إبراهيم من قبل أن تجيئه المعرفة : " هذا ربي " {[11970]} ، من قبل أن يخبره أحد أن له ربا ، فلما أخبره الله أنه ربه زاد هدى ، فقال له ربه : " أسلم قال أسلمت لرب العالمين " {[11971]} [ البقرة : 131 ] . ومن قال : إن هذا مثل للقرآن في قلب المؤمن قال : كما أن هذا المصباح يستضاء به ولا ينقص فكذلك القرآن يهتدى به ولا ينقص ، فالمصباح القرآن والزجاجة قلب المؤمن والمشكاة لسانه وفهمه والشجرة المباركة شجرة الوحي . " يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار " تكاد حجج القرآن تتضح ولو لم يقرأ . " نور على نور " يعني أن القرآن نور من الله تعالى لخلقه ، مع ما أقام لهم من الدلائل والإعلام قبل نزول القرآن ، فازدادوا بذلك نورا على نور . ثم أخبر أن هذا النور المذكور عزيز وأنه لا يناله إلا من أراد الله هداه فقال : " يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس " أي يبين الأشباه تقريبا إلى الأفهام . " والله بكل شيء عليم " أي بالمهدي والضال . وروي عن ابن عباس أن اليهود قالوا : يا محمد ، كيف يخلص نور الله تعالى من دون السماء ، فضرب الله تعالى ذلك مثلا لنوره .