روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي  
{وَهُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ مِنَ ٱلۡمَآءِ بَشَرٗا فَجَعَلَهُۥ نَسَبٗا وَصِهۡرٗاۗ وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرٗا} (54)

{ وَهُوَ الذى خَلَقَ مِنَ الماء بَشَراً } هو الماء الذي خمر به طينة آدم عليه السلام وجعله جزءاً من مادة البشر لتجتمع وتسلس وتستعد لقبول الإشكال والهيئات ، فالمراد بالماء الماء المعروف وتعريفه للجنس والمراد بالبشر آدم عليه السلام وتنوينه للتعظيم أو جنس البشر الصادق عليه عليه السلام وعلى ذريته ، ومن ابتدائية ، ويجوز أن يراد بالماء النطفة وحينئذ يتعين حمل البشر على أولاد آدم عليه السلام .

{ فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً } أي قسمه قسمين ذوي نسب أي ذكوراً ينسب إليهم وذوات صهر أي إناثاً يصاهر بهن فهو كقوله تعالى : { فَجَعَلَ مِنْهُ الزوجين الذكر والانثى } [ القيامة : 39 ] فالواو للتقسيم والكلام على تقدير مضاف حذف ليدل على المبالغة ظاهراً وعدل عن ذكر وأنثى ليؤذن بالانشعاب نصاً ، وهذ الجعل والتقسيم مما لا خفاء فيه على تقدير أن يراد بالبشر الجنس ، وأما على تقدير أن يراد به آدم عليه السلام فقيل : هو باعتبار الجنس وفي الكلام ما هو من قبيل الاستخدام نظير ما في قولك : عندي درهم ونصفه ، وقيل : لا حاجة إلى اعتبار ذلك والكلام من باب الحذف والإيصال ، أي جعل منه وقد جيء به على الأصل في نظير هذه الآية وهو ما سمعته آنفاً ، وقيل : معنى جعل آدم نسباً وصهراً خلق حواء منه وإبقاؤه على ما كان عليه من الذكورة .

وتعقيب جعل الجنس قسمين خلق آدم أو الجنس باعتبار خلقه أو جعل قسمين من آدم خلقه عليه السلام كما تؤذن به الفاء ظاهر ، وربما يتوهم أن الضمير المنصوب في جعله عائد على الماء والفاء مثلها في قوله تعالى : { وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبّ } [ هود : 45 ] الخ وقوله تعالى : { وَكَم مّن قَرْيَةٍ أهلكناها فَجَاءهَا بَأْسُنَا بياتا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ } [ الأعراف : 4 ] وليس بشي .

وعن علي كرم الله تعالى وجهه أن النسب ما لا يحل نكاحه والصهر ما يحل نكاحه ، وفي رواية أخرى عنه رضي الله تعالى عنه النسب ما لا يحل نكاحه والصهر قرابة الرضاع ، وتفسير الصهر بذلك مروى عن الضحاك أيضاً .

{ وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً } مبالغاً في القدرة حيث قدر على أن يخلق من مادة واحدة بشراً ذا أعضاء مختلفة وطباع متباعدة ، وجعله قسمين متقابلين { وَكَانَ } في مثل هذا الموضع للاستمرار . وإذا قلنا بأن الجملة الإسمية نفسها تفيد ذلك أيضاً أفاد الكلام استمراراً على استمرار . وربما أشعر ذلك بأن القدرة البالغة من مقتضيات ذاته جل وعلا . ومن العجب ما زعمه بعض من يدعي التفرد بالتحقيق ممن صحبناه من علماء العصر رحمة الله تعالى عليه إن { كَانَ } في مثله للاستمرار فيما لم يزل والجملة الاسمية للاستمرار فيما لا يزال فيفيد جمعهما استمرار ثبوت الخبر للمتبدأ أزلاً وأبداً ، ويعلم منه مبلغ الرجل في العلم .