روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي  
{سَنُرِيهِمۡ ءَايَٰتِنَا فِي ٱلۡأٓفَاقِ وَفِيٓ أَنفُسِهِمۡ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمۡ أَنَّهُ ٱلۡحَقُّۗ أَوَلَمۡ يَكۡفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُۥ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ شَهِيدٌ} (53)

وقوله تعالى : { سنريهم آياتنا فِي الآفاق } الخ مرتبط على ما اختاره «صاحب الكشاف » بقوله تعالى : { قُلْ أرأيتم } [ فصلت : 52 ] الخ على وجه التتميم والإرشاد إلى ما ضمن من الحث على النظر ليؤدي إلى المقصود فيهدوا إلى إعجازه ويؤمنوا بما جاء به ويعملوا بمقتضاه ويفوزوا كل الفوز ، وفسر الآيات بما أجرى الله تعالى على يد نبيه صلى الله عليه وسلم وعلى أيدي خلفائه وأصحابهم رضي الله تعالى عنهم من الفتوحات الدالة على قوة الإسلام وأهله ووهن الباطل وحزبه ، والآفاق النواحي الواحد أفق بضمتين وأفق بفتحتين أي سنريهم آياتنا في النواحي عموماً من مشارق الأرض ومغاربها وشمالها وجنوبها ، وفيه أن هذه الإراءة كائنة لا محالة حق لا يحوم حولها ريبة { وَفِى أَنفُسِهِمْ } في بلاد العرب خصوصاً وهو من عطف { جبريل } على { ملائكته } [ البقرة : 98 ] . وفي العدول عنها إلى المنزل ما لا يخفى من تمكين ذلك النصر وتحقيق دلالته على حقية المطلوب إثباته وإظهار أن كونه آية بالنسبة إلى الأنفس وإن كان كونه فتحا بالنسبة إلى الأرض والبلدة { حتى يَتَبَيَّنَ } يظهر { لَهُمْ أَنَّهُ } أي القرآن هو { الحق } الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه فهو الحق كله من عند الله تعالى المطلع على كل غيب وشهادة فلهذا نصر حاملوه وكانوا محقين ، وفي التعريف من الفخامة ما لا يخفى جلالة وقدراً ، وفيما ذكر إشارة إلى أنه تعالى لا يزال ينشئ فتحاً بعد فتح وآية غب آية إلى أن يظهر على الدين كله ولو كره المشركون فانظر إلى هذه الآية الجامعة كيف دلت على حقية القرآن على وجه تضمن حقية أهله ونصرتهم على المخالفين وأعظم بذاك تسلياً عما أشعرت به الآية السابقة من انهماكهم في الباطل إلى حد يقرب من اليأس ، وقيل : الضمير للرسول عليه الصلاة والسلام أو الدين أو التوحيد ولعل الأول أولى { أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبّكَ } استئناف وارد لتوبيخهم على إنكارهم تحقق الإراءة .

والهمزة للإنكار والواو على أحد الرأيين للعطف على مقدر دخلت عليه الهمزة يقتضيه المقام والباءة مزيدة للتأكيد و { رَبَّكَ } فاعل كفى وزيادة الباء في فاعلها هو القول المشهور المرضى للنحاة وتزاد في فاعل فعل التعجب أيضاً نحو أحسن بزيد فإن أحسن فعل ماض جيء به على صيغة الأمر والباء زائدة وزيد فاعل عند جماعة من النحويين ولا تكاد تزاد في غيرهما ، وقوله :

ألم يأتيك والإنباء تنمى *** بما لاقت لبون بني زياد

شاذ قبيح على ما قال الشهاب ، وقوله تعالى : { أَنَّهُ على كُلّ شَىْء شَهِيدٌ } بدل من الفاعل بدل اشتمال ، وقيل : هو بتقدير حرف الجر أي أو لم يكفهم ربك بأنه الخ ، وما للنحويين في مثل هذا التركيب من الكلام شهير ، أي انكروا إراءة ذلك الدالة على حقية القرآن ولم يكفهم دليلاً أنه عز وجل مطلع على كل شيء عالم به ومن ذلك حالهم وحالك الموجبان حكمة نصرك عليهم وخذلانهم ، وكأن ذلك لظهوره نزل منزلة المعلوم لهم .

وفي «الكشف » أي أو لم يكفهم أن ربك سبحانه مطلع على كل شيء يستوي عنده غيب الأشياء وشهادتها على معنى أو لم يكفهم هذه الإراءة دليلاً قاطعاً ولما كان ما وعده غيباً عنهم كيف وقد نزل وهم في حال ضعف وقلة يقاسون ما يقاسون من مشركي مكة قيل : أو لم يكفهم إطلاع من هذا الكتاب الحق من عنده على كل غيب وشهادة دليلاً على كينونة الإراءة وإحضار ذلك الغيب عندهم إذ لا غيب بالنسبة إليه تعالى ، وفي العدول إلى هذه العبارة فائدتان . إحداهما : تحقيق إنجاز ذلك الموعود كأنه مشاهد بذكر الدليل القاطع على الوقوع . والثانية الدلالة على أن هذه الإراءة الآن وهم في ضعف وقلة قد تمت بالنسبة إلى إثبات حقية القرآن لأن من علم أنه تعالى على كل شيء شهيد وعلم أن القرآن معجز من عنده علم أن جميع ما فيه حق وصدق فعلم أن تلك النصرة كائنة .

والحاصل أنه كما يستدل من تلك الآيات على حقيقة القرآن وحقية أهله تارة يستدل من إعجاز القرآن على حقية تلك الآيات وقوعاً وحقية أهل الإسلام أخرى فأدى المعنيان في عبارة جامعة تؤدي الغرضين على وجه لا يمكن أتم منه انتهى . ولا يخفى أن في الآية عليه نوعاً من الألغاز ، وقيل : أي ألم يغنهم عن إراءة الآيات الموعودة المبينة لحقية القرآن ولم يكفهم في ذلك أنه تعالى شهيد على جميع الأشياء وقد أخبر بأنه من عنده عز وجل ، وهو كما ترى ، وقيل : المعنى ولم يكفك أنه تعالى عل كل شيء شهيد محقق له فيحقق أمرك بإظهار الآيات الموعودة كما حقق سائر الأشياء الموعودة . وتعقب بأنه مع إيهامه ما لا يليق بجلالة منصبه صلى الله عليه وسلم من التردد فيما ذكر من تحقق الموعود لا يلائم قوله تعالى : { أَلاَ إِنَّهُمْ فِى مِرْيَةٍ مّن لّقَاء رَبّهِمْ }

ومن كلمات القوم في الآيات :

{ سَنُرِيهِمْ ءاياتنا فِى الافاق وَفِى أَنفُسِهِمْ } فيه إشارة إلى أن الخلق لا يرون الآيات إلا بإراءته عز وجل وهي كشف الحجب ليظهر أن الأعيان ما شمت رائحة الوجود ولا تشمه أبداً وأنه عز وجل هو الأول والآخر والظاهر والباطن كان الله ولا شيء معه وهو سبحانه الآن على ما عليه كان وإليه الإشارة عندهم بقوله تعالى : { حتى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحق } [ فصلت : 53 ] ومن هنا قال الشيخ الأكبر قدس سره :

ما آدم في الكون ما ابليس *** ما ملك سليمان وما بلقيس

الكل إشارة وأنت المعنى *** يا من هو للقلوب مغناطيس

وأكثر كلامه قدس سره من هذا القبيل بل هو أم وحدة الوجود وأبوها وابنها وأخوها ، وإياك أن تقول كما قال ذلك الأجل حتى تصل بتوفيق الله تعالى إلى ما إليه وصل والله عز وجل الهادي إلى سواء السبيل ،