مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{سَنُرِيهِمۡ ءَايَٰتِنَا فِي ٱلۡأٓفَاقِ وَفِيٓ أَنفُسِهِمۡ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمۡ أَنَّهُ ٱلۡحَقُّۗ أَوَلَمۡ يَكۡفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُۥ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ شَهِيدٌ} (53)

ولما ذكر هذه الوجوه الكثيرة في تقرير التوحيد والنبوة ، وأجاب عن شبهات المشركين وتمويهات الضالين قال : { سنريهم ءاياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق } قال الواحدي واحد الآفاق أفق وهو الناحية من نواحي الأرض ، وكذلك آفاق السماء ونواحيها وأطرافها ، وفي تفسير قوله { سنريهم ءاياتنا في الآفاق وفي أنفسهم } قولان ( الأول ) أن المراد بآيات الآفاق الآيات الفلكية والكوكبية وآيات الليل والنهار وآيات الأضواء والإضلال والظلمات وآيات عالم العناصر الأربعة وآيات المواليد الثلاثة ، وقد أكثر الله منها في القرآن ، وقوله { وفي أنفسهم } المراد منها الدلائل المأخوذة من كيفية تكون الأجنة في ظلمات الأرحام وحدوث الأعضاء العجيبة والتركيبات الغريبة ، كما قال تعالى : { وفي أنفسكم أفلا تبصرون } يعني نريهم من هذه الدلائل مرة بعد أخرى إلى أن تزول الشبهات عن قلوبهم ويحصل فيها الجزم والقطع بوجود الإله القادر الحكيم العليم المنزه عن المثل والضد ، فإن قيل هذا الوجه ضعيف لأن قوله تعالى : { سنريهم } يقتضي أنه تعالى ما أطلعهم على تلك الآيات إلى الآن وسيطلعهم عليها بعد ذلك ، والآيات الموجودة في العالم الأعلى والأسفل قد كان الله أطلعهم عليها قبل ذلك فثبت أنه تعذر حمل هذا اللفظ على هذا الوجه ، قلنا إن القوم وإن كانوا قد رأوا هذه الأشياء إلا أن العجائب التي أودعها الله تعالى في هذه الأشياء مما لا نهاية لها ، فهو تعالى يطلعهم على تلك العجائب زمانا فزمانا ، ومثاله كل أحد رأى بعينه بنية الإنسان وشاهدها ، إلا أن العجائب التي أبدعها الله في تركيب هذا البدن كثيرة وأكثر الناس لا يعرفونها ، والذي وقف على شيء منها فكلما ازداد وقوفا على تلك العجائب والغرائب فصح بهذا الطريق قوله { سنريهم ءاياتنا في الآفاق وفي أنفسهم } ( والقول الثاني ) أن المراد بآيات الآفاق فتح البلاد المحيطة بمكة وبآيات أنفسهم فتح مكة والقائلون بهذا القول رجحوه على القول الأول لأجل أن قوله { سنريهم } يليق بهذا الوجه ولا يليق بالأول إلا أنا أجبنا عنه بأن قوله { سنريهم } لائق بالوجه الأول كما قررناه ، فإن قيل حمل الآية على هذا الوجه بعيد لأن أقصى ما في الباب أن محمدا صلى الله عليه وسلم استولى على بعض البلاد المحيطة بمكة ، ثم استولى على مكة ، إلا أن الاستيلاء على بعض البلاد لا يدل على كون المستولي محقا ، فإنا نرى أن الكفار قد يحصل لهم استيلاء على بلاد الإسلام وعلى ملوكهم ، وذلك لا يدل على كونهم محقين ، ولهذا السبب قلنا إن حمل الآية على الوجه الأول أولى ، ثم نقول إن أردنا تصحيح هذا الوجه ، قلنا إنا لا نستدل بمجرد استيلاء محمد صلى الله عليه وسلم على تلك البلاد على كونه محقا في ادعاء النبوة ، بل نستدل به من حيث إنه صلى الله عليه وسلم أخبر عن مكة أنه يستولي عليها ويقهر أهلها ويصير أصحابه قاهرين للأعداء ، فهذا إخبار عن الغيب وقد وقع مخبره مطابقا لخبره ، فيكون هذا إخبارا صدقا عن الغيب ، والإخبار عن الغيب معجزة ، فبهذا الطريق يستدل بحصول هذا الاستيلاء على كون هذا الدين حقا .

ثم قال : { أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد } وقوله { بربك } في موضع الرفع على أنه فاعل { يكف } و{ أنه على كل شيء شهيد } بدل منه ، وتقديره : أو لم يكفهم أن ربك على كل شيء شهيد ، ومعنى كونه تعالى شهيدا على الأشياء أنه خلق الدلائل عليها ، وقد استقصينا ذلك في تفسير قوله { قل أي شيء أكبر شهادة قل الله } والمعنى ألم تكفهم هذه الدلائل الكثيرة التي أوضحها الله تعالى وقررها في هذه السورة وفي كل سور القرآن الدالة على التوحيد والتنزيه والعدل والنبوة .