ولما ذكر هذه الوجوه الكثرة في تقرير التوحيد والنبوة آجاب عن شبهات المشركين فقال : { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفاق وفي أَنفُسِهِمْ } الآفاق جمع أفق وهو الناحية . نقل النَّوَوِيُّ في التهذيب قال أهل اللغة : الآفاق النَّواحِي ، الواحد أفُق بضم الهمزة والفاء ، وأُفْق بإسكان الفاء قال الشاعر ( رحمه الله ){[48980]} :
4369 لَوْ نَالَ حَيٌّ مِنَ الدُّنيا بِمَنْزِلَةٍ *** أُفْقَ السَّمَاءِ لَنَالَتْ كَفُّهُ الأْفُقَا{[48981]}
وهو كأعناقٍ في عنق ، أُبْدِلَتْ همزته ألفاً{[48982]} . ونقل الراغب أنه يقال : أَفَقٌ بفتح الهمزة والفاء{[48983]} فيكون كجبلٍ وأجبالٍ . وأفَقَ فلانٌ أي ذهب في الآفاق . والآفِقُ الذي بلغ نهاية الكرم تشبيهاً في ذلك بالذاهب في الآفاق . والنسبة إلى الأفق أَفَقيّ بفتحهما{[48984]} . ويحتمل أن نسب إلى المفتوح ثم استغنوا بذلك عن النسبة إلى المضموم ، وله نظائر{[48985]} . قال النووي : قالوا : والنسبة إليه أُفُقيّ بضم الهمزة والفاء وبفتحهما لغتان{[48986]} مشهورتانِ .
قال ابن عباس ( رضي الله عنهما{[48987]} ) : معنى قوله سنريهم آياتنا في الآفاق أي منازل الأمم الخالية وفي أنفسهم بالبلاء والأمراض . وقال قتادة : يعني وقائع الله تعالى في الأمم الخالية وفي أنفسهم يوم بدر . وقال مجاهد والحسن والسدي : ما يفتح الله من القُرى على محمد صلى الله عليه وسلم والمسلمين وفي أنفسهم : فتح مكة{[48988]} .
فإن قيل : حمل الآية على ( هذا ) الوجه بعيد ؛ لأن أقصى ما في الباب أن محمداً صلى الله عليه وسلم استولى على البلاد المحيطة بمكة ثم استولى على مكة إلا أن الاستيلاء على بعض البلاد لا يدل على كون المستولي محقاً فإنا نرى بعض الكفار قد يستولي على بلاد المسلمين وعلى ملوكهم{[48989]} ( وهذا يدل على كونهم ) محقين .
فالجواب : أنا لا نستدل بمجرد استيلاء محمد عليه الصلاة والسلام على تلك البلاد على كونه محقاً في ادعاء النبوة ، بل يستدل به من حيث إنه صلى الله عليه وسلم أخبر عن أنه سيستولي عليها ويقهر أهلها وهذا إخبار عن الغيب ، وقد وقع مُخْبَره مطابقاً لخَبَرِهِ ، فيكون هذا إخباراً صدقاً عن الغيب فيكون معجزاً فبهذا الطريق يستدل بحصول هذا الاستيلاء على كون هذا الدين حقاً . وقال عطاء وابن زيد : في الآفاق يعني أقطار السموات والأرض من الشمس والقمر والنجوم ، وآيات الليل والنهار ، والأضواء ، والظلال والظلمات والنبات والأشجار و الأنهار ، وفي أنفسهم من لطيف الصنعة ، وبديع الحكمة ، في كيفية تكوين الأجنة في ظلمات الأرحام ، وحدوث الأعضاء العجيبة ، والتركيبات الغريبة ، كقوله : { وفي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ } [ الذاريات : 21 ] يعني نريهم هذه الدلائل { حتى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحق } من عند الله يعني محمداً صلى لله عليه وسلم ، وأنه مرسل من عند الله .
فإن قيل : هذا الوجه ضعيف ، لأن قوله تعالى { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا } يقتضي أنه تعالى ما أطلعهم على تلك الآيات إلى الآن وسيطلعهم عليها بعد ذلك ، والآيات الموجودة في العالم الأعلى والأسفل قد أطلعهم عليها قبل ذلك فيتعذر حمل اللفظ على هذا الوجه .
فالجواب : أن القوم وإن كانوا قد رأوا هذه الأشياء إلا أن العجائب ( التي أَوْدَعَهَا{[48990]} الله تعالى في هذه الأشياء مما لا نهاية لها فهو تعالى يطلعهم على تلك العجائب زماناً فزماناً ؛ لأن كل أحد رأى بنية الإنسان وشاهدها ، إلا أن العجائب ) إلى أبدعها الله تعالى في تركيب هذا البدن كثيرة وأكثر الناس لا يعرفونها ، والذي وقف على شيء منها كلَّما أزداد وقوفاً على تلك العجائب ازْدَاد يقينا وتعظيماً ، وكذلك التركيبات ( الفلكية أيضاً ){[48991]} .
والأولى أن يقال : إن كان المراد بقوله : { حتى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحق }{[48992]} وهو الرسول فقول مجاهد أولى وإن كان المراد به الدين والتوحيد فهذا أولى .
قوله : { أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ } فيه وجهان :
أحدهما : أن الباء مزيدة في الفاعل ، وهذا هو الراجح ، والمفعول محذوف ، أي أَوَ لَمْ يكف ربُّك{[48993]} .
وفي قوله : { أَنَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } وجهان :
أحدهما : أنه بدل من «بربك » فيكون مرفوع المحل ، مجرور اللفظ كمتبوعه{[48994]} .
والثاني : أن الأصل بأنه ، تم حذف الجار فجرى الخلاف{[48995]} .
الثاني من الوجهين الأولين : أن يكون «بِرَبَّكَ » هو المفعول و«أنه » وما بعده هو الفاعل ، أي أو لم يكف ربَّك شَهَادَته .
وقرئ : «إنَّه على كلِّ » «بالكسر »{[48996]} ، وهو على إضمار القول أو على الاستئناف .
اعلم أن قوله «بِرَبِّك » في موضع الرفع على أنه فاعل كما تقدم ومعناه : أو لم يكفهم أن ربك على كل شيء شهيد ، أي شهيداً على الأشياء لأنه خلق الدلائل الدالة عليها .
وقال مقاتبل : أو لم يكفِ{[48997]} بربك شاهداً أن القرآن من الله عزَّ وجلَّ . قال الزجاج : معنى الكفاية ههنا أن الله عزَّ وجلَّ قد بين من الدلائل ما فيه كِفَاية{[48998]} .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.