اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{سَنُرِيهِمۡ ءَايَٰتِنَا فِي ٱلۡأٓفَاقِ وَفِيٓ أَنفُسِهِمۡ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمۡ أَنَّهُ ٱلۡحَقُّۗ أَوَلَمۡ يَكۡفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُۥ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ شَهِيدٌ} (53)

ولما ذكر هذه الوجوه الكثرة في تقرير التوحيد والنبوة آجاب عن شبهات المشركين فقال : { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفاق وفي أَنفُسِهِمْ } الآفاق جمع أفق وهو الناحية . نقل النَّوَوِيُّ في التهذيب قال أهل اللغة : الآفاق النَّواحِي ، الواحد أفُق بضم الهمزة والفاء ، وأُفْق بإسكان الفاء قال الشاعر ( رحمه الله ){[48980]} :

4369 لَوْ نَالَ حَيٌّ مِنَ الدُّنيا بِمَنْزِلَةٍ *** أُفْقَ السَّمَاءِ لَنَالَتْ كَفُّهُ الأْفُقَا{[48981]}

وهو كأعناقٍ في عنق ، أُبْدِلَتْ همزته ألفاً{[48982]} . ونقل الراغب أنه يقال : أَفَقٌ بفتح الهمزة والفاء{[48983]} فيكون كجبلٍ وأجبالٍ . وأفَقَ فلانٌ أي ذهب في الآفاق . والآفِقُ الذي بلغ نهاية الكرم تشبيهاً في ذلك بالذاهب في الآفاق . والنسبة إلى الأفق أَفَقيّ بفتحهما{[48984]} . ويحتمل أن نسب إلى المفتوح ثم استغنوا بذلك عن النسبة إلى المضموم ، وله نظائر{[48985]} . قال النووي : قالوا : والنسبة إليه أُفُقيّ بضم الهمزة والفاء وبفتحهما لغتان{[48986]} مشهورتانِ .

فصل

قال ابن عباس ( رضي الله عنهما{[48987]} ) : معنى قوله سنريهم آياتنا في الآفاق أي منازل الأمم الخالية وفي أنفسهم بالبلاء والأمراض . وقال قتادة : يعني وقائع الله تعالى في الأمم الخالية وفي أنفسهم يوم بدر . وقال مجاهد والحسن والسدي : ما يفتح الله من القُرى على محمد صلى الله عليه وسلم والمسلمين وفي أنفسهم : فتح مكة{[48988]} .

فإن قيل : حمل الآية على ( هذا ) الوجه بعيد ؛ لأن أقصى ما في الباب أن محمداً صلى الله عليه وسلم استولى على البلاد المحيطة بمكة ثم استولى على مكة إلا أن الاستيلاء على بعض البلاد لا يدل على كون المستولي محقاً فإنا نرى بعض الكفار قد يستولي على بلاد المسلمين وعلى ملوكهم{[48989]} ( وهذا يدل على كونهم ) محقين .

فالجواب : أنا لا نستدل بمجرد استيلاء محمد عليه الصلاة والسلام على تلك البلاد على كونه محقاً في ادعاء النبوة ، بل يستدل به من حيث إنه صلى الله عليه وسلم أخبر عن أنه سيستولي عليها ويقهر أهلها وهذا إخبار عن الغيب ، وقد وقع مُخْبَره مطابقاً لخَبَرِهِ ، فيكون هذا إخباراً صدقاً عن الغيب فيكون معجزاً فبهذا الطريق يستدل بحصول هذا الاستيلاء على كون هذا الدين حقاً . وقال عطاء وابن زيد : في الآفاق يعني أقطار السموات والأرض من الشمس والقمر والنجوم ، وآيات الليل والنهار ، والأضواء ، والظلال والظلمات والنبات والأشجار و الأنهار ، وفي أنفسهم من لطيف الصنعة ، وبديع الحكمة ، في كيفية تكوين الأجنة في ظلمات الأرحام ، وحدوث الأعضاء العجيبة ، والتركيبات الغريبة ، كقوله : { وفي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ } [ الذاريات : 21 ] يعني نريهم هذه الدلائل { حتى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحق } من عند الله يعني محمداً صلى لله عليه وسلم ، وأنه مرسل من عند الله .

فإن قيل : هذا الوجه ضعيف ، لأن قوله تعالى { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا } يقتضي أنه تعالى ما أطلعهم على تلك الآيات إلى الآن وسيطلعهم عليها بعد ذلك ، والآيات الموجودة في العالم الأعلى والأسفل قد أطلعهم عليها قبل ذلك فيتعذر حمل اللفظ على هذا الوجه .

فالجواب : أن القوم وإن كانوا قد رأوا هذه الأشياء إلا أن العجائب ( التي أَوْدَعَهَا{[48990]} الله تعالى في هذه الأشياء مما لا نهاية لها فهو تعالى يطلعهم على تلك العجائب زماناً فزماناً ؛ لأن كل أحد رأى بنية الإنسان وشاهدها ، إلا أن العجائب ) إلى أبدعها الله تعالى في تركيب هذا البدن كثيرة وأكثر الناس لا يعرفونها ، والذي وقف على شيء منها كلَّما أزداد وقوفاً على تلك العجائب ازْدَاد يقينا وتعظيماً ، وكذلك التركيبات ( الفلكية أيضاً ){[48991]} .

والأولى أن يقال : إن كان المراد بقوله : { حتى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحق }{[48992]} وهو الرسول فقول مجاهد أولى وإن كان المراد به الدين والتوحيد فهذا أولى .

قوله : { أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ } فيه وجهان :

أحدهما : أن الباء مزيدة في الفاعل ، وهذا هو الراجح ، والمفعول محذوف ، أي أَوَ لَمْ يكف ربُّك{[48993]} .

وفي قوله : { أَنَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } وجهان :

أحدهما : أنه بدل من «بربك » فيكون مرفوع المحل ، مجرور اللفظ كمتبوعه{[48994]} .

والثاني : أن الأصل بأنه ، تم حذف الجار فجرى الخلاف{[48995]} .

الثاني من الوجهين الأولين : أن يكون «بِرَبَّكَ » هو المفعول و«أنه » وما بعده هو الفاعل ، أي أو لم يكف ربَّك شَهَادَته .

وقرئ : «إنَّه على كلِّ » «بالكسر »{[48996]} ، وهو على إضمار القول أو على الاستئناف .

فصل

اعلم أن قوله «بِرَبِّك » في موضع الرفع على أنه فاعل كما تقدم ومعناه : أو لم يكفهم أن ربك على كل شيء شهيد ، أي شهيداً على الأشياء لأنه خلق الدلائل الدالة عليها .

وقال مقاتبل : أو لم يكفِ{[48997]} بربك شاهداً أن القرآن من الله عزَّ وجلَّ . قال الزجاج : معنى الكفاية ههنا أن الله عزَّ وجلَّ قد بين من الدلائل ما فيه كِفَاية{[48998]} .


[48980]:زيادة من أ.
[48981]:من البسيط لزهير بن أبي سلمى. والشاهد في أفق الأولى والثانية حيث إنهما مفرد آفاق والأولى بضم الهمزة وتسكين الفاء والثانية بضم الهمزة والفاء، ومن المحتمل أن يكون للوزن العروضي دخل في هيئة الكلمتين. وانظر الديوان له 55، والبحر المحيط 7/481، والدر المصون 4/740.
[48982]:يقصد أن آفاق جمع عن أفق وآفاق أصلها أأفاق بزنة أفعال، فاجتمعت همزتان الأولى متحركة والثانية ساكنة فأبدلت الثانية من جنس حركة الأولى مثل: آبار، وآثام وغيرهما.
[48983]:أتى الراغب في كتابه بهذه الكلمة دون ضبط إلا أن محقق الكتاب ضبطها بالكسر.
[48984]:ومحقق الكتاب ضبطها أيضا بضم الهمزة والفاء واحتمال أن يعود هذا كله إلى الطبع والسهو والله أعلم انظر المفردات (19) "أفق".
[48985]:قال إمام النحاة سيبويه فيما جاء من النسب شاذا. وفي السهل سهلي وفي الدهر دهري.. وقالوا في الأفق: أفقي، ومن العرب من يقول: أفقي فهو على القياس الكتاب 3/336، وانظر أيضا اللسان أفق 96 ومفردات الراغب السابق 19.
[48986]:انظر تهذيب النووي المرجع السابق.
[48987]:سقط من ب.
[48988]:هذه الآراء ذكرها القرطبي في الجامع 15/374 و375.
[48989]:ما بين القوسين سقط من أ الأصل.
[48990]:ما بين القوسين كله سقط من ب بسبب انتقال النظر. وانظر في هذا كله تفسير الإمام الرازي 27/139 و140.
[48991]:سقط من ب.
[48992]:انظر الرازي المرجع السابق.
[48993]:انظر الكشاف 3/458 معنى، والبحر المحيط 7/505 والدر المصون 4/741 لفظا.
[48994]:المرجع السابق بالمعنى من الكشاف السابق أيضا.
[48995]:المرجع ما قبل الأخير، وقد نقل هذه الأوجه أبو البقاء في التبيان 1129 وابن الأنباري في البيان 2/334.
[48996]:قراءة شاذة ولم ينسبها أبو حيان في البحر ولا السمين في الدر انظر البحر 7/505، والدر المصون 4/741.
[48997]:البغوي 6/115.
[48998]:قال: "ومعنى الكفاية ههنا أنه قد بين لهم ما فيه كفاية في الدلالة على توحيده وبينت رسله" معاني القرآن وإعرابه 4/392.