روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي  
{إِنَّا فَتَحۡنَا لَكَ فَتۡحٗا مُّبِينٗا} (1)

مقدمة السورة:

سورة الفتح

نزلت بالمدينة على ما روي عن ابن عباس وابن الزبير رضي الله تعالى عنهم والأخبار تدل على أنها نزلت في السفر لا قي المدينة نفسها وهو الصحيح أخرج ابن أبي شيبة وأحمد والبخاري في تاريخه وأبو داود والنسائي وجماعة عن ابن مسعود قال : أقبلنا من الحديبية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام ست بعد الهجرة وكان قد خرج إليها عليه الصلاة والسلام يوم الأثنين هلال ذي القعدة فأقام بها بضعة عشر يوما وقيل : عشرين يوما ثم قفل عليه الصلاة والسلام فبينما نحن نسير إذ أتاه الوحي وكان إذا أتاه اشتد عليه فسرى عنه وبه من السرور ما شاء الله تعالى فأخبرنا أنه أنزل عليه { إنا فتحنا لك فتحا مبينا } وأخرج أحمد والبخاري والترمذي والنسائي وابن حبان وابن مردويه عن عمر بن الخطاب قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فسألته عن شيء ثلاث مرات فلم يرد علي فحركت بعيري ثم تقدمت أمام الناس وخشيت أن ينزل في القرآن فما نشبت إذ سمعت صارخا يصرخ بي فوجفت وأنا أظن أنه نزل في شيء فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لقد أنزلت علي الليلة سورة أحب إلي من الدنيا وما فيها { إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر } وفي حديث صحيح أخرجه أحمد وأبو داود وغيرهما عن مجمع بن جارية الأنصاري ما يدل على أنها نزلت بعد منصرفه صلى الله عليه وسلم من الحديبية أيضا وأن ذلك عند كراع الغميم فقرأها عليه الصلاة والسلام على الناس وهو على راحلته وفي رواية ابن سعد عنه ما يدل على أنها بضجنان ونقل ذلك عن البقاعي وضجنان بضاد معجمة وجيم ونونين بينهما ألف بزنة سكران كما في القاموس جبل قرب مكة وهذا ونحوه قول بنزولها بين مكة والمدينة ومثل ذلك يعد مدنيا على المشهور وهو أن المدني ما نزل بعد الهجرة سواء نزل بالمدينة أم بمكة أم بسفر من الأسفار والمكي ما نزل قبل الهجرة وأما على القول بأن المكي ما نزل ولو بعد الهجرة بمكة ويدخل فيها كما قال الجلال السيوطي نواحيها كمنى وعرفات والحديبية بل بعضها على ما في الهداية وأكثرها على ما قال المحب الطبري من حرم مكة والمدني ما نزل بالمدينة ويدخل فيها كما قال أيضا نواحيها كأحد وبدر وسلع فلا بل يعد على القول بأنه نزل قرب مكة مكيا فالقول بأن السورة مدنية بلا خلاف فيه نظر ظاهر وهي تسع وعشرون آية بالأجماع ولا يخفى حسن وضعها هنا لأن الفتح بمعنى النصر مرتب على القتال وفي كل من ذكر المؤمنين المخلصين والمنافقين والمشركين ما فيه وقد ذكر أيضا في الأولى الأمر بالأستغفار وذكر هنا وقوع المغفرة وذكرت الكلمة الطيبة هناك بلفظها الشريف وكني عنها بكلمة التقوى بناء على أشهر الأقوال فيها وستعرفها إن شاء الله تعالى إلى غير ذلك وفي البحر وجه مناسبتها لما قبلها أنه لما تقدم { وإن تتولوا } الآية وهو خطاب لكفار قريش أخبر سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم بالفتح العظيم وأنه بهذا الفتح حصل الأستبدال وأمن كل من كان بمكة وصارت دار إيمان وفيه ما لا يخفى وفي الأخبار السابقة ما يدل على جلالة قدرها وفي حديث مجمع بن جارية الذي أخرجه عنه ابن سعد لما نزل بها جبريل عليه السلام قال : نهنيك يا رسول الله فلما هناه جبريل عليه السلام هناه المسلمون ويحكى أنه من قرأها أول ليلة من رمضان حفظ ذلك العام ولم يثبت ذلك في خبر صحيح والله تعالى أعلم .

بسْم الله الرحمن الرَّحيم { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ } أخبار عن صلح الحديبية عند الجمهور وروى ذلك عن ابن عباس . وأنس . والشعبي . والزهري قال ابن عطية : وهو الصحيح ، وأصل الفتح إزالة الإغلاق ، وفتح البلد كما في الكشاف الظفر به عنوة أو صلحاً بحرب أو بغيره لأنه منغلق ما لم يظفر به فإذا ظفر به وحصل في اليد فقد فتح ، وسمي ذلك الصلح فتحاً لاشتراكهما في الظهور والغلبة على المشركين فإنهم كما قال الكلبي ما سألوا الصلح إلا بعد أن ظهر المسلمون عليهم ، وعن ابن عباس أن المسلمين رموهم أي بسهام وحجارة كما قيل حتى ادخلوهم ديارهم أو لأن ذلك الصلح صار سبباً لفتح مكة ، قال الزهري : لم يكن فتح أعظم من صلح الحديبية اختلط المشركون بالمسلمين وسمعوا كلامهم وتمكن الإسلام من قلوبهم وأسلم في ثلاث سنين خلق كثير وكثر بهم سواد الإسلام ، قال القرطبي : فما مضت تلك السنون إلا والمسلمون قد جاؤا إلى مكة في عشرة آلاف ففتحوها ، والتسمية على الأول من باب الاستعالرة التبعية كيفما قررت ، وعلى الثاني من باب المجاز المرسل سواء قلنا إنه في مثل ما ذكر تبعي أم لا حيث سمي السبب باسم المسبب ، ولا مانع من أن يكون بين شيئين نوعان من العلاقة فيكون استعمال أحدهما في الآخر باعتبار كل نوعاً من المجاز كما في المشفر والشفة الغليظة لإنسان ، وإسناد الفتح المراد به الصلح الذي هو فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه عز وجل مجاز من إسناد ما للقابل للفاعل الموجد ، وفي ذلك من تعظيم شأن الصلح والرسول عليه الصلاة والسلام ما فيه ؛ لا يقال : قد تقرر في الكلام أن الأفعال كلها مخلوقة له تعالى فنسبة الصلح إليه سبحانه إسناد إلى ما هو له فلا مجاز لأنا نقول : ما هو له عبارة عما كان الفعل حقه أن يسند إليه في العرف سواء كان مخلوقاً له تعالى أو لغيره عز وجل كما صرح به السعد في المطول وكيف لا ولو كذلك لكان إسناد جميع الأفعال إلى غيره تعالى مجازاً وإليه تعالى حقيقة كالصلاة والصيام وغيرهما .

/ وقال المحقق ميرزاجان : يمكن توجيه ما في الآية الكريمة على أنه استعارة مكنية أو على أن يراد خلق الصلح وإيجاده أو على أن يكون المجاز في الهيئة التركيبية الموضوعة للإسناد إلى ما هو له فاستعملت في الإسناد إلى غيره أو على أن يكون من قبيل الاستعارة التمثيلية ، والأوجه الأربعة جارية في كل ما كان من قبيل المجاز العقلي كأنبت الربيع البقل ، وقد صرح القوم بالثلاثة الأول منها ، وزعم بعض أن الصلح مما يسند إليه تعالى حقيقة فلا يحتاج إلى شيء من ذلك وفيه مافيه ، ويجوز أن يكون ذلك إخباراً عن جعل المشركين في الحديبية مغلوبين خائفين طالبين للصلح ويكون الفتح مجازاً عن ذلك وإسناده إليه تعالى حقيقة ، وقد خفي كون ما كان في الحديبية فتحاً على بعض الصحابة حتى بينه عليه الصلاة والسلام .

أخرج البيهقي عن عروة قال : " أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية راجعاً فقال رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : «والله ما هذا بفتح لقد صددنا عن البيت وصد هدينا وعكف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية ورد رجلين من المسلمين خرجاً فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك فقال : بئس الكلام هذا بل هو أعظم الفتح لقد رضي المشركون أن يدفعوكم بالراح عن بلادكم ويسألونكم القضية ويرغبون إليكم في الأمان وقد كرهوا منكم ما كرهوا ، وقد أظفركم الله عليهم وردكم سالمين غانمين مأجورين فهذا أعظم الفتح ، أنسيتم يوم أحد إذا تصعدون ولا تلون على أحد وأنا أدعوكم في إخراجكم ؟ أنسيتم يوم الأحزاب إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذا زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنون ؟ قال المسلمون : صدق الله ورسوله هو أعظم الفتوح والله يا نبي الله ما فكرنا فيما ذكرت ولأنت أعلم بالله وبالأمور منا " وفائدة الخبر بالفتح على الوجهين بالنسبة إلى غيره عليه الصلاة والسلام لأنه صلى الله عليه وسلم يعلم ذلك وكذا يعلم لازم الفائدة كذا قيل .

وحمل الغير على من لم يحضر الفتح من الصحابة وغيرهم لأن الحاضرين علموا ذلك قبل النزول ، وقيل : الحاضر إنما علم وقوع الصلح أو كون المشركين بحيث طلبوه ولم يعلم كونه فتحاً كما يشعر به الخبر ، وإن سلم أنه علم ذلك لكنه لم يعلم عظم شأنه على ما يشعر به إسناده إلى نون العظمة والاخبار به بذلك الاعتبار .

وقال بعض المحققين : لعل المقصود بالإفادة كون ذلك للمغفرة وما عطف عليها فيجوز أن تكون الفائدة بالنسبة إليه صلى الله عليه وسلم أيضاً ، وأقول : قد صرحوا بأنه كثيراً ما تورد الجملة الخبرية لأغراض أخر سوى إفادة الحكم أو لازمه نحو { رَبّ إِنّى وَضَعْتُهَا أنثى } [ آل عمران : 36 ] { رَبّ إِنّى وَهَنَ العظم مِنّى } [ مريم : 4 ] { لاَّ يَسْتَوِى القاعدون مِنَ المؤمنين } [ النساء : 95 ] الآية إلى غير ذلك مما لا يحصى فيجوز أن يكون الغرض من إيرادها ههنا الامتنان دون إفادة الحكم أو لازمه ولا مجاز في ذلك ونحوه على ما أشار إليه العلامة عبد الحكيم السالكوتي في حواشيه على المطول .

وصرح في الرسالة الجندية بأن الهيئة التركيبية الخبرية في نحو ذلك منقولة إلى الإنشائية وإن المجاز في الهيئة فقط لا في الأطراف ولا في المجموع وهو مجاز مفرد عند صاحب الرسالة والكلمة أعظم من اللفظ الحقيقي والحكمي ، وبعضهم يقول هو مجاز مركب ولا ينحصر في التمثيلية ، وتحقيقه في موضعه .

والتأكيد بأن للاعتناء لا لرد الإنكار وقيل لأن الحكم لعظم شأنه مظنة للإنكار ، وقيل : لأن بعض السامعين منكر كون ما وقع فتحاً ، ويقال في تكرير الحكم نحو ذلك . وقال مجاهد : المراد بالفتح فتح خيبر وهي مدينة كبيرة ذات حصون ومزارع على ثمانية برد من المدينة إلى جهة الشام ، وكان خروج النبي صلى الله عليه وسلم كما قال ابن إسحق ورجحه الحافظ ابن حجر في بقية المحرم سنة سبع وأقام يحاصرها بضع عشرة ليالة إلى أن فتحها ونقل عن مالك وجزم به ابن حزم أنه كان في آخر سنة ست ، وجمع بأن من أطلق سنة بناه على أن ابتداء السنة من شهر الهجرة الحقيقي وهو شهر ربيع الأول ، وقول الشيخ أبي حامد في التعليقة : إن غزوة خيبرة كانت سنة خمس وهم ، وقول ابن سعد . وابن أبي شيبة رواية عن أبي سعيد الخدري ، أنها كانت لثمان عشرة من رمضان خطأ ، ولعل الأصل كانت حنين فحرف ومع هذا يحتاج إلى توجيه وقد فتحت على أيدي أهل الحديبية لم يشركهم أحد من المتخلفين عنها فالفتح على حقيقة وإسناده إليه تعالى على حد ما سمعت فيما تقدم ، والتأكيد بأن وتكرير الحكم للاعتناء ، والتعبير عن ذلك بالماضي مع أنه لم يكن واقعاً يوم النزول بناء على ما روى عن المسور بن مخرمة من أن السورة نزلت من أولها إلى آخرها بين مكة والمدينة من باب مجاز المشارفة نحو من قتل قتيلاً على المشهور أو الأول نحو { إِنّى أَرَانِى أَعْصِرُ خَمْرًا } [ يوسف : 36 ] ولا يضر اختلافهما في الفعلية والاسمية ؛ وفيه وجه آخر يعلم مما سيأتي إن شاء الله تعالى . وذهب جماعة إلى أنه فتح مكة وهو كما في زاد المعاد الفتح الأعظم الذي أعز الله تعالى به دينه واستنقذ في دين الله عز وجل أفواجاً وأشرق وجه الدهر ضياء وابتهاجاً ، وكان سنة ثمان وفي رواية ونصف ، وقد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما أخرجه أحمد بإسناد صحيح عن أبي سعيد لليلتين خلتا من شهر رمضان ، وفتح مكة لثلاث عشرة خلت منه على ما روى عن الزهري ، وروى عن جماعة أنه كان الفتح في عشر بقيت من شهر رمضان وقيل غير ذلك ، وكان معه صلى الله عليه وسلم من المسلمين عشرة آلاف وقيل : إثنا عشر ألفاً والجمع ممكن ، وكان الفتح عند الشافعي صلحاً وهي رواية عن أحمد للتأمين في ممر الظهران بمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن ومن دخل المسجد فهو آمن ، ولعدم قسمة الدور بين الغانمين ، وذهب الأكثرون إلى أنه عنوة للتصريح بالأمر بالقتال ووقوعه من خالد بن الوليد وقوله ، عليه الصلاة والسلام :

«أحلت لي ساعة من نهار » ولا يسمى ذلك التأمين صلحاً إلا إذا التزم من أشير إليه به الكف عن القتال ، والأخبار الصحيحة ظاهرة في أن قريشاً لم يلتزموا ، وترك القسمة لا يستلزم عدم العنوة فقد تفتح البلدة عنوة ويمن على أهلها وتترك لهم دورهم .

وأقام عليه الصلاة والسلام بعد الفتح خمس عشرة ليلة في رواية البخاري وسبع عشرة في رواية أبي داود وثمان عشرة في رواية الترمذي ، وتسع عشرة في رواية بعض ، وتمام الكلام في كتب السير ، واستظهر هذا القول أبو حيان وذكر أنه المناسب لآخر السورة التي قبل لما قال سبحانه : { هَاأَنتُمْ هَؤُلاَء تُدْعَوْنَ } [ محمد : 38 ] الآية فبين جل وعلا أنه فتح لهم مكة وغنموا وحصل لهم أضعاف ما أنفقوا ولو بخلوا لضاع عليهم ذلك فلا يكون بخلهم إلا على أنفسهم ، وأيضاً لما قال سبحانه : { وَأَنتُمُ الاعلون والله مَعَكُمْ } [ محمد : 35 ] بين تعالى برهانه بفتح مكة فإنهم كانوا هم الأعلين ، وأيضاً لما قال تعالى : { فَلا فَلاَ تَهِنُواْ وَتَدْعُواْ إِلَى السلم } [ محمد : 35 ] كان ذلك في فتح مك ة ظاهراً حيث لم يلحقهم وهن ولادعوا إلى الصلح بل أتى صناديد قريش مستأمنين مستسلمين وهذا ظاهر بالنسبة إلى القول بأن المراد به فتح الحديبية ، وأما على القول بأن المراد به فتح خيبر فليس كذلك ، ورجع بعضهم القول بأنه صلح الحديبية على القول بأنه فتح مكة بأن وعد فتح مكة يجيء صريحاً في هذه السورة الكريمة وذلك قوله تعالى : { لَّقَدْ صَدَقَ الله رَسُولَهُ الرؤيا بالحق لَتَدْخُلُنَّ المسجد الحرام إِن شَاء الله ءامِنِينَ } [ الفتح : 27 ] الآية فلو حمل هذا الفتح عليه لكان تأكيداً بخلاف ما إذا حمل على صلح الحديبية فإنه يكون تأسيساً والتأسيس خير من التأكيد ، ورجحه بعض على القول بأنه فتح خيبر بمثل هذا لأن فتح خيبر مذكور فيما بعد أيضاً ، وللبحث في ذلك مجال ، وإن والتكرير لما تقدم ، وكذا الإسناد إلى ضمير العظمة بل هذا الفتح أولى بالاعتناء وتعظيم الشأن حتى قيل : إن إسناده إليه تعالى لكونه من الأمور الغريبة العجيبة التي يخلقها الله تعالى على يد أنبيائه عليهم السلام كالرمي بالحصى المشار إليه بقوله تعالى : { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكن الله رمى } [ الأنفال : 17 ] وهذا خلاف ظاهر ، والمشهور أن في الكلام مجازاً عقلياً وفيه الاحتمالات السابقة .

وقال بعض المحققين : يمكن أن يقال : لعل الإرادة هنا معتبرة إما على سبيل الحذف أو على المجاز المرسل كما في قوله تعالى : { إِذَا قمتم إلى الصلاة } [ المائدة : 6 ] الآية ، وقوله تعالى : { فَإِذَا قَرَأْتَ القرءان فاستعذ بالله } [ النحل : 98 ] عند أكثر الأئمة ، ومثل هذا التأويل قيل : مطرد في الأفعال الاختيارية ، وزعم بعضهم أن الفتح مجاز عن تيسيره ، وذكر بعض الصدور في توجيه التأكيد بأن ههنا أنه قد يجعل غير السائل بمنزلة السائل إذا قدم إليه ما يلوح به بالخبر ، وصرحوا بأن الملوح لا يلزم أن يكون كلاماً ، وقد ذكر غير واحد من المفسرين وغيرهم أنه عليه الصلاة والسلام رأى في المنام أنه وأصحابه رضي الله تعالى عنهم دخلوا مكة آمنين فصار المقام مقام أن يتردد في الفتح فألقى إليه عليه الصلاة والسلام الكلام مؤكداً كما يلقى إلى السائل كذلك ، وجوز أن يكون لرد الإنكار بناء على تحققه من المشركين فإنهم كانوا يزعمون أنه صلى الله عليه وسلم لا يستولي على مكة كما لم يستول عليها من أراد الاستيلاء عليها قبله عليه الصلاة والسلام وهو كما ترى ، وذكر بعض أجلة القائلين بأن المراد به فتح مكة أن الكلام وعد بفتحها فقيل إن الجملة حينئذ أخبار ، وقيل : إنها إنشاء ، واستشكل بما صرح به الرضي من أن الجمل الإنشائية منحصرة بالاستقراء في الطلبية والإيقاعية والوعد ليس شيئاً منهما أما الأول فظاهر ، وأما الثاني فلأن مجرد قولك لأكرمنك مثلاً لا يقع به الإكرام ، وقال بعض الصدور أن كلامهم مضطرب في كون الوعد إنشاء أو إخباراً ، ويمكن التوفيق بأن يقال : أصل الوعد إنشاء لأنه إظهار أمر في النفس يوجب سرور المخاطب وما يتعلق به الوعد وهو الموعود إخبار نظيره قول النحاة كأن لإنشاء التشبيه مع أن مدخولها جملة خبرية .

وقال الخفاجي : هذا ناشيء من عدم فهم المراد منه ، فإن قيل : المراد من لأكرمنك مثلاً إكرام في المستقبل فهو خبر بلا مرية ، وإن قيل : معناه العزم على إكرامه وتعجيل المسرة له بإعلامه فهو إنشاء ، وأقول لا يخفى أن الأخبار أصل للإنشاء ، وقد صرح بذلك العلامة التفتازاني ، في المطول وليست هيئة المركب دالة على أنه إنشاء وليس فيه ما يدل بمادته على ذلك فيمكن أن يقال : إنه إخبار قصد به تعجيل المسرة وإن ذلك لا يخرجع عن الاخبار نظير ما قيل في قوله تعالى : { رَبّ إِنّى وَضَعْتُهَا أنثى } [ آل عمران : 36 ] ونحوه فتدبر ، والتعبير عن ذلك بالماضي لتحققه ، وفيه من تسلية قلوب الأصحاب وتسليتهم حيث صاروا محزونين غاية الحزن من تأخير الفتح ما فيه ، وهذا التعبير من قبيل الاستعارة التبعية على ما حققه السيد السند في «حواشي المطول » حيث قال : اعلم أن التعبير عن المضارع بالماضي وعكسه يعد من باب الاستعارة بأن يشبه غير الحاصل بالحاصل في تحقق الوقوع ويشبه الماضي بالحاضر في كونه نصب العين واجب المشاهدة ثم يستعار لفظ أحدهما للآخر فعلى هذا تكون استعارة الفعل على قسمين . أحدهما : أن يشبه الضرب الشديد مثلاً بالقتل ويستعار له اسمه ثم يشتق منه قتل بمعنى ضرباً شديداً . والثاني : أن يشبه الضرب المستقبل بالضرب في الماضي مثلاً في تحقق الوقوع فيستعمل فيه ضرب فيكون المعنى المصدري أعني الضرب موجوداً في كل واحد من المشبه والمشبه به لكنه قيد في كل منهما بقيد يغاير الآخر فصح التشبيه لذلك .

وقال المحقق ميرزاجان يمكن توجيه الاستعارة ههنا بوجه آخر وهو أن يشبه الزمان المستقبل بالزمان الماضي ووجه الشبه أنه كما أن الثاني ظرف أمر محقق الوقوع كذلك الزمان الأول واللفظ الدال على الزمان الثاني وهو لفظ الفعل الماضي من جهة الصيغة جعل دالاً على الزمان المستقبل مستعملاً فيه ، ومن البين أن المصدر على حاله لم يتغير معناه فكانت الاستعارة في الصيغة والهيئة أولى لأنها الدالة على الزمان الماضي وبواسطتها كانت الاستعارة في الفعل كما كانت الاستعارة في الفعل بواسطة المصدر ، والفرق أن هذه الاستعارة في الفعل بواسطة جوهره ومادته وفيما نحن فيه بواسطة صورته ، لا يقال : الدال على الزمان هو نفس اللفظ المشتق لا جزؤه لأنا نقول : يجري هذا الاحتمال في الاستعارة التبعية المشهورة بأن يقال : الدال على المعنى الحدثي هو نفس اللفظ المشتق لا جزؤه لأن المصدر بصيغته غير متحقق في المشتق فإن الضرب غير موجود في ضارب وضرب .

فإن قلت : المصدر لفظ مستقل يمكن التعبير به عن معناه بخلاف الهيئة قلت : لفظ الزمان الماضي أيضاً كذلك فلا فرق ولو سلم نقول في كل منهما : نستعير المعنى المطابقي للفظ الفعل بواسطة المعنى التضمني له ، ولا يبعد أن يسمى مثل هذا استعارة تبعية ، والأمر في التسمية هين لا اعتداد بشأنه ، ولعلهم إنما جعلوا الاستعارة في مثل ذلك بواسطة المصدر واعتبروا التغاير الاعتباري ولم يعتبروا ما اعتبرنا من تشبيه نفس الزمان بالزمان حتى تصير الاستعارة في الفعل تبعية بلا تكلف رعاية لطي النشر بقدر الإمكان وأيضاً في كون الصيغة والهيئة جزأ للفظ تأمل ، وأيضاً الهيئة ليست جزأ مستقلاً كالمصدر ، وأيضاً الهيئة ليست لفظاً والاستعارة قسم للفظ ، ولعل القوم لهذه كلها أو بعضها لم يلتفتوا إليه انتهى ، وفيه بحث ، وللفاضل مير صدر الدين رسالة في هذه الآية الكريمة تعرض فيها للمحقق في هذا المقام ، وتعقبها الفاضل يوسف القرباغي برسالة أطال الكلام فيها وجرح وعدل وذكر عدة احتمالات في الاستعارة التبعية ، ومال إلى أن الهيئة لفظ محتجاً بما نقله من «شرح المختصر » العضدي ومن «شرح الشرح » للعلامة التفتازاني وأيده بنقول أخر فليراجع ذلك فإنه وإن كان في بعضه نظر لا يخلو عن فائدة .

والذي يترجح عندي أن الهيئة ليست بلفظ لكنها في حكمه وأنه قد يتصرف فيها بالتجوز كما في الخبر إذا استعمل في الإنشاء وإن المجاز المرسل يكون تبعياً بناء على ما ذكروه في وجه التبعية في الاستعارة ، وقول الصدر في الفرق : إن العلاقة في الاستعارة ملحوظة حين الاطلاق فإنهم صرحوا بأن اسم المشبه به لا يطلق على المشبه إلا بعد دخوله في جنس المشبه به بخلاف المرسل فإن العلاقة باعثة للانتقال وليست ملحوظة حين الاستعمال فلا ضرورة في القول بالتبعية فيه إن تم لا يجدي نفعاً فافهم ، وزعم بعضهم أن التعبير بالماضي ههنا على حقيقته بناء على أن الفتح مجاز عن تيسيره وتسهيله وهو مما لا يتوقف على حصول الفتح ووقوعه ليكون مستقبلاً بالنسبة إلى زمن النزول مثله ألا ترى أن موسى عليه الصلاة والسلام سأل ربه تعالى بقوله :

{ يَسْرِ لِى أَمْرِى } [ طه : 26 ] أن يسهل أمره وهو خلافته في أرضه وما يصحبها ، وأجيب إليه في موقف السؤال بقوله تعالى : { قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ ياموسى } [ طه : 36 ] ولم يباشر بعد شيئاً ، وحمله على الوعد بإيتاء السؤال خلاف الظاهر ، وأنت تعلم أن ما ذهب إليه الجمهور أظهر وأبلغ ، وفي مجيء المستقبل بصيغة الماضي لتنزيله منزلة المحقق من الفخامة والدلالة على علو شأن المخبر ما لا يخفى كما في «الكشاف » ، وذلك على ما قيل لأنه يدل على أن الأزمنة كلها عنده تعالى على السواء وإن منتظره كمحقق غيره وأنه سبحانه إذا أراد أمراً تحقق لا محالة وأنه لجلالة شأنه إذا أخبر عن حادث فهو كالكائن لما عنده من أسبابه القريبة والبعيدة ، وقيل غير ذلك . واستشكل أمر المضي في كلامه تعالى بناء على ثبوت الكلام النفسي الأزلي للزوم الكذب لأن صدق الكلام يستدعي سبق وقوع النسبة ولا يتصور السبق على الأزل ، وأجيب بأن كلامه تعالى النفسي الأزلي لا يتصف بالماضي وغيره لعدم الزمان . وتعقب بأن تحقق هذا مع القول بأن الأزلي مدلول اللفظي عسير جداً ، وكذا القول بأن المتصف بالمضي وغيره إنما هو اللفظ الحادث دون المعنى القديم . وأجاب بعضهم بأن العسر لو كان دلالة اللفظي عليه دلالة الموضوع على الموضوع له وليس كذلك عندهم بل هي دلالة الأثر على المؤثر ، ولا يلزم من اعتبار شيء في الأثر اعتباره في المؤثر ، ولا يخفى أن كون الدلالة دلالة الأثر على المؤثر خلاف الظاهر ، وقال ابن الصدر في ذلك : إن اشتمال الكلام اللفظي على المضي والحضور والاستقبال إنما هو بالنظر إلى زمان المخاطب لا إلى زمان المتكلم كما إذا أرسلت زيداً إلى عمرو تكتب في مكتوبك إليه إني أرسلت إليك زيداً مع أنه حين ما تكتبه لم يتحقق الإرسال فتلاحظ حال المخاطب ، وكما تقدر في نفسك مخاطباً وتقول : لم تفعل الآن كذا وكان قبل ذلك كذا ، ولا شك أن هذا المضي والحضور والاستقبال بالنسبة إلى زمان الوجود المقدر لهذا المخاطب لا بالنسبة إلى زمان المتكلم بالكلام النفسي لكونه متوجهاً لمخاطب مقدر لا يلاحظ فيه إلا أزمنة المخاطبين المقدرين ، وما اعتبره أئمة العربية من حكاية الحال الماضية واعتبار المضي والحضور والاستقبال في الجملة الحالية بالقياس إلى زمان الفعل لا زمان التكلم قريب منه جداً انتهى ، وللمحقق ميرزاجان كلام في هذا المقام يطلب من حواشيه على الشرح العضدي .

وقيل : المراد بالفتح فتح الروم على إضافة المصدر إلى الفاعل فإنهم غلبوا على الفرس في عام النزول ، وكونه فتحاً له عليه الصلاة والسلام لأنه أخبر عن الغيب فتحقق ما أخبر به في ذلك العام ولأنه تفاءل به لغلبة أهل الكتاب المؤمنين وفي ذلك من ظهور أمره صلى الله عليه وسلم ما هو بمنزلة الفتح ، قيل : ففي الفتح استعارة لتشبيه ظهوره صلى الله عليه وسلم بالفتح ، وقيل : لا تجوز فيه وإنما التجوز في تعلقه به عليه الصلاة والسلام ، وقيل : لا تجوز أصلاً والمعنى فتحنا على الروم لأجلك . وأنت تعلم أن حمل الفتح على ما ذكره في نفسه بعيد جداً .

وأورد عليه أن فتح الروم لم يكن مسبباً على الجهاد ونحوه فلا يصح ما ذكروه في توجيه التعليل الآتي ، وعن قتادة { فَتَحْنَا } من الفتاحة بالضم وهي الحكومة أي انا قضينا لك على أهل مكة أن تدخلها أنت وأصحابك من قابل لتطوفوا بالبيت وهو بعيد أيضاً ، وقيل : المراد به فتح الله تعالى له صلى الله عليه وسلم بالإسلام والنبوة والدعوة بالحجة والسيف ؛ وقريب منه ما نقله الراغب من أنه فتحه عز وجل له عليه الصلاة والسلام بالعلوم والهدايات التي هي ذريعة إلى الثواب والمقامات المحمودة ، وأمره في البعد كما سبق ، وأياً ما كان فحذف المفعول للقصد إلى نفس الفعل والإيذان بأن مناط التبشير نفس الفتح الصادر عنه سبحانه لا خصوصية المفتوح ، وتقديم { لَكَ } على المفعول المطلق أعني قوله تعالى : { فَتْحاً مُّبِيناً } مع أن الأصل تقديمه على سائر المفاعيل كما صرح به العلامة التفتازاني للاهتمام بكون ذلك لنفعه عليه الصلاة والسلام ، وقيل : لأنه مدار الفائدة ، و { مُّبِينٌ } من أبان بمعنى بأن اللازم أي فتحابينا ظاهر الأمر مكشوف الحال أو فارقا بين الحق والباطل .

ومن باب الاشارة : في بعض الآيات : { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً } [ الفتح : 1 ] يشير عندهم إلى فتح مكة العماء بادخال الأعيان الثابتة ظاهره بنور الوجود فيها أي اظهارها للعيان لأجله عليه الصلاة والسلام على أن لام { لَكَ } للتعليل ، وحاصله أظهرنا العالم لأجلك وهو في معنى ما يروونه من قوله سبحانه : { *لولاك لولاك ما خلقت إلا فلان } وقيل : يشير إلى فتح باب قلبه عليه الصلاة والسلام إلى حضرة ربوبيته عز وجل بتجلي صفات جماله وجلاله وفتح ما انغلق على جميع القلوب من الأسرار وتفصيل شرائع الإسلام وغير ذلك من فتوحات قلبه صلى الله عليه وسلم