روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي  
{وَقَالَ ٱلۡمَلَأُ مِن قَوۡمِ فِرۡعَوۡنَ أَتَذَرُ مُوسَىٰ وَقَوۡمَهُۥ لِيُفۡسِدُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَيَذَرَكَ وَءَالِهَتَكَۚ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبۡنَآءَهُمۡ وَنَسۡتَحۡيِۦ نِسَآءَهُمۡ وَإِنَّا فَوۡقَهُمۡ قَٰهِرُونَ} (127)

{ وَقَالَ الملأ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ } مخاطبين له بعدما شاهدوا من أمر موسى عليه السلام ما شاهدوا .

{ أَتَذَرُ موسى } أي أتتركه { وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِى الارض } أي في أرض مصر .

والمراد بالإفساد ما يشمل الديني والدنيوي ، ومفعول الفعل محذوف للتعميم أو أنه منزل منزلة اللازم أو يقدر يفسدوا الناس بدعوتهم إلى دينهم والخروج عليك . أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال : لما آمنت السحرة أتبع موسى عليه السلام ستمائة ألف من بني إسرائيل { وَيَذَرَكَ } عطف على يفسدوا المنصوب بأن ، أو منصوب على جواب الاستفهام كما ينصب بعد الفاء ، وعلى ذلك قول الحطيئة :

ألم أك جارك ويكون بيني *** وبينكم المودة والأخاء

والمعنى كيف يكون الجمع بين تركك موسى عليه السلام وقومه مفسدين في الأرض وتركهم إياك الخ أي لا يمكن وقوع ذلك . وقرأ الحسن . ونعيم بن ميسرة بالرفع على أنه عطف على ( تذر ) أو استئناف أو حال بحذف المبتدأ ، أي وهو يذرك لأن الجملة المضارعية لا تقترن بالواو على الفصيح ، والجملة على تقدير الاستئناف معترضة مؤكدة لمعنى ما سبق ، أي تذره وعادته وتركك ، ولا بد من تقدير هو على ما قال الطيبي كما في احتمال الحال ليدل على الدوام ، وعلى تقدير الحالية تكون مقررة لجهة الإشكال . وعن الأشهب أنه قرأ بسكون الراء ، وخرج ذلك ابن جنى على أنه تركت الضمة للتخفيف كما في قراءة أبي عمرو { يَأْمُرُكُمْ } [ البقرة : 67 ] بإسكان الراء استقلالاً للضمة عند توالي الحركات ، واختاره أبو البقاء ، وقيل : إنه عطف على ما تقدم بحسب المعنى ، ويقال له في غير القرآن عطف التوهم ، كأنه ، قيل : يفسدوا ويذرك كقوله تعالى : { فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مّنَ الصالحين } [ المنافقين : 10 ]

{ وَءالِهَتَكَ } أي معبوداتك . يروى أنه كان يعبد الكواكب فهي آلهته وكان يعتقد أنها المربية للعالم السفلى مطلقاً وهو رب النوع الإنساني ، وعن السدي أن فرعون كان قد اتخذ لقومه أصناماً وأمرهم بأن يعبدوها تقرباً إليه ، ولذلك قال : { أَنَاْ رَبُّكُمُ الاعلى } [ النازعات : 24 ] وقيل : إنه كانت له بقرة يعبدها وكان إذا رأى بقرة حسنة أمر قومه بعبادتها ، ولذلك أخرج السامري لبني إسرائيل عجلاً وهو رواية ضعيفة عن ابن عباس ، وقال سليمان التيمي : بلغني أنه كان يجعل في عنقه شيئاً يعبده ، وأمر الجمع عليه يحتاج إلى عناية وقرأ ابن مسعود . والضحاك . ومجاهد . والشعبي و { إلهتك } كعبادتك لفظاً ومعنى فهو مصدر .

وأخرج غير واحد عن ابن باس أنه كان ينكر قراءة الجمع بالجمع ويقرأ بالمصدر ويقول : إن فرعون كان يعبد ولا يعبد ، ألا ترى قوله : { مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مّنْ إله غَيْرِى } [ القصص : 38 ] ومن هنا قال بعضهم : الأقرب أنه كان دهرياً منكراً للصانع ، وقيل : الآلهة اسم للشمس وكان يعبدها ؛ وأنشد أبو علي :

وأعجلنا الآلهة أن تؤبا *** { قَالَ } مجيباً لهم { سَنُقَتّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِى * نِسَاءهُمْ } كما كنا نفعل بهم ذلك من قبل ليعلم أنا على ما كنا عليه من القهر والغلبة ، ولا يتوهم أنه المولود الذي حكم المنجمون والكهنة بذهاب ملكنا على يده .

وقرأ ابن كثير . ونافع ( سنقتل ) بالتخفيف والتضعيف كما في موتت الإبل .

{ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهرون } أي غالبون كما كنا لم يتغير حالنا وهم مقهورون تحت أيدينا ، وكان فرعون قد انقطع طمعه عن قتل موسى عليه السلام فلم يعد الملأ بقتله لما رأى من علو أمره وعظم شأنه وكأنه لذلك لم يعد بقتل قومه أيضاً ، والظاهر على ما قيل : إن هذا من فرعون بيان لأنهم لا يقدرون على أن يفسدوا في الأرض وإيذان بعدم المبالاة بهم وأن أمرهم فيما بعد كأمرهم فيما قبل وأن قتلهم عبث لا ثمرة فيه ، وذكر الطيبي أنه من الأسلوب الحكيم وإن صدر من الأحمق ، وأن الجملة الاسمية كالتذليل لما قبلها فافهم .