الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَقَالَ ٱلۡمَلَأُ مِن قَوۡمِ فِرۡعَوۡنَ أَتَذَرُ مُوسَىٰ وَقَوۡمَهُۥ لِيُفۡسِدُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَيَذَرَكَ وَءَالِهَتَكَۚ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبۡنَآءَهُمۡ وَنَسۡتَحۡيِۦ نِسَآءَهُمۡ وَإِنَّا فَوۡقَهُمۡ قَٰهِرُونَ} (127)

قوله تعالى : { وَيَذَرُكَ } : قرأ العامَّةُ : " ويَذَرَك " بياء الغيبة ونصبِ الراء . وفي النصبِ وجهان : أظهرهما : أنه على العطف على " ليُفْسدوا " . والثاني : أنه منصوبٌ على جواب الاستفهام ، كما يُنصب في جوابه بعد الفاء كقول الحطيئة :

ألم أكُ جارَكُم ويكونَ بيني *** وبينكمُ المودةُ والإِخاءُ

والمعنى : كيف يكون الجمعُ بين تَرْكِكَ موسى وقومه مفسدين وبين تركِهم إيَّاك وعبادةِ آلهتك ، أي لا يمكنُ وقوعُ ذلك .

وقرأ الحسن في روايةٍ عنه ونعيم بن ميسرة " ويذرُك " برفع الراء . وفيها ثلاثةُ أوجه ، أظهرُها : أنه نسقٌ على " أتذر " أي : أتطلق له ذلك . الثاني : أنه استئنافُ إخبار بذلك . الثالث : أنه حالٌ . ولا بدَّ من/ إضمارِ مبتدأ ، أي : وهو يَذَرُك .

وقرأ الحسن أيضاً والأشهب العقيلي : " ويذرْك " بالجزم وفيها وجهان ، أحدهما : أنه جزم ذلك عطفاً على التوهم ، كأنه توهَّم جَزْمَ " يُفْسدوا " في جواب الاستفهام فعطف عليه بالجزم كقوله : { فأصَّدَّق وأكنْ } [ المنافقين : 10 ] بجزم " وأكن " . الثاني : أنها تخفيفٌ كقراءةِ أبي عمرو " يَنْصُرْكم " وبابه .

وقرأ أنس بن مالك : " ونذرُك " بنون الجماعة ورفع الراء ، تَوَعَّدوه بذلك ، أو أنَّ الأمرَ يُؤول إلى ذلك فيكون خبراً محضاً . وقرأ عبد الله والأعمش بما يخالف السواد فلا حاجةَ إلى ذِكْره .

وقرأ العامَّة : " وآلهتكَ " بالجمع . وفي التفسير : أنه كان يعبدُ آلهةً متعددة كالبقر والحجارة والكواكب ، أو آلهته التي شَرَع عبادتَها لهم وجَعَل نفسَه الإِلَه الأعلى في قوله { أَنَاْ رَبُّكُمُ الأَعْلَى } . وقرأ علي بن أبي طالب وابن مسعود وأنس وجماعة كثيرة : " وإلاهتك " . وفيها وجهان ، أحدهما : أن " إلاهة " اسم للمعبود ، ويكون المرادُ بها معبودَ فرعونِ وهي الشمس ، وفي التفسير أنه كان يعبد الشمس ، والشمس تسمَّى " إلاهةً " علَماً عليها ، ولذلك مُنِعت الصرف للعلمية والتأنيث . والثاني : أن " إلاهة " مصدر بمعنى العبادة ، أي : ويذر عبادَتك لأنَّ قومه كانوا يعبدونه . ونقل ابن الأنباري عن ابن عباس أنه كان يُنْكر قراءة العامة ، ويقرأ " وإلاهتك " وكان يقول : إن فرعون كان يُعْبَدُ ولا يَعْبُدُ .

قوله : { سَنُقَتِّلُ } قرأ نافع وابن كثير : " سَنَقْتل " بالتخفيف ، والباقون بالتضعيف للتكثير ، لتعدُّد المجال . وسيأتي أن الجماعة قَرَؤوا " يُقَتِّلُون أبناءكم " بالتضعيف إلا نافعاً ، فيخفف . فتلخص من ذلك أنَّ نافعاً يقرأ الفعلين بالتخفيف . وابن كثير يخفف " سنقتل " ويثقِّل " يقتلون " ، والباقون يثقلونها .