[ اعلم أن فرعون كان كلما رأى موسى خافه أشد الخوف ، فلهذا لم يحبسه ولم يتعرض له بل خلى سبيله ، فقال له قومه : أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ] .
أي : يُفسدوا على النَّاسِ دينَهُمْ .
قوله : " وَيَذَركَ " العامةُ " ويَذَرَكَ " بالغيبةِ ، ونصب الرَّاءِ ، وفي النَّصْبِ وجهان :
أظهرهما : أنَّهُ عطف على " لِيُفْسِدُوا " والثاني : أنَّهُ منصوبٌ على جواب الاستفهام كما يُنْصب في جوابه بعد الفاء ؛ كقول الحُطيئةِ : [ الوافر ]
ألَمْ أكُ جَارَكُمْ ويكُونَ بَيْنِي *** وبَيْنَكُمُ المَوَدَّةُ والإخَاءُ ؟{[16705]}
والمعنى : كيف يكون الجمع بين تَرْكِكَ موسى وقومه مفسدين ، وبين تركهم إيَّاك وعبادةِ آلهتك ، أي : لا يمكن وقوعُ ذلك .
وقرأ الحسنُ{[16706]} في رواية عنه ونعيمُ بن ميسرة " وَيَذَرُكَ " برفع الرَّاء ، وفيها ثلاثة أوُجه :
أظهرها : أنَّه عطف نسق على " أتذر " أي : أتطلق له ذلك .
الثاني : أنه استئناف أي ، إخبار بذلك .
الثالث : أنَّهُ حالٌ ، ولا بدَّ من إضمارِ مبتدأ ، أي : وهو يَذَرُكَ .
وقرأ الحسنُ أيضاً والأشهبُ العُقَيْلِيُّ " وَيَذَرْكُ " بالجزم ، وفيه وجهان :
أحدهما : أنَّه جزم على التَّوهُّم ، كأنه توهَّم جزم " يُفْسِدُوا " في جواب الاستِفْهَامِ وعطف عليه بالجزمِ ، كقوله : { فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن } [ المنافقون : 10 ] بجزم " أكُنْ " .
والثاني : أنَّهَا تخفيفٌ كقراءة أبي عمرو { يَنصُرْكُمُ } [ آل عمران : 160 ] وبابه .
وقرأ أنس بن مالك " ونَذَرُكَ " بنون الجماعة ورفع الرَّاءِ ، تَوَعَّدُوهُ بذلك ، أو أنَّ الأمْرَ يؤولُ إلى ذلك فيكونُ خبراً محضاً . وقرأ عبد الله والأعمش{[16707]} بما يخالف السَّوادَ ، فلا حاجة إلى ذكره .
وقرأ العامةُ " آلهَتَكَ " بالجمع .
رُوِيَ أنه كان يعبدُ آلهةً متعددة كالبَقَرِ ، ولذلك أخرجَ السَّامري لهم عجلاً ، ورُوي أنَّهُ كان يعبدُ الحِجارةَ والكواكب ، أو آلهتَه التي شَرَعَ عبادَتَها لهم وجعل نَفْسَهُ الإله الأعلى في قوله : { أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى } [ النازعات : 24 ] .
وقرأ علي بنُ أبي طالب{[16708]} ، وابنُ مسعود ، وابن عبَّاسٍ ، وأنسٌ وجماعة كثيرةٌ " وإلاهتكَ " ، وفيها وجهان :
أحدهما : أنَّ " الإلاهَةَ " اسمٌ للمعبود ، ويكونُ المرادُ بها معبودَ فرعون ، وهي الشَّمْسُ .
رُوى أنَّهُ كان يعبُد الشَّمْسَ ، والشَّمْسُ تُسَمَّى " إلاهَةً " ، عَلَماً عليها ، ولذلك مُنِعَت الصَّرف ، للعمليَّة والتأنيث ؛ قال الشَّاعرُ : [ الوافر ]
تَرَوَّحْنَا مِنَ اللَّغْباءِ عَصْراً *** فأعْجَلْنَا الإلهَةَ أنْ تَئُويَا{[16709]}
والثاني : أنَّ الإلاهة مصدرٌ بمعنى العبادة ، أي وتذرُ عبادتك ، لأنَّ قومه كانوا يعبدونه .
ونقل ابنُ الأنْباري عن ابن عبَّاسٍ أنَّهُ كان يُنكر قراءة العامَّة ، ويقرأ " وإلاهتك " ، وكان يقول : إنَّ فرعون كان يُعْبَدُ ولا يَعْبُدُ .
قال ابنُ الخطيبِ : والذي يخطر ببالي أنَّ فرعون إن قلنا : إنَّه ما كان كامل العقل لم يَجُزْ في حكم اللَّهِ تعالى إرسال الرسول إليه ، وإن كان عَاقِلاً لم يَجُز أنْ يعتقدَ في نفسه كونه خالقاً للسَّمواتِ والأرضِ ، ولم يجز في الجمع العظيم من العقلاء أن يعتقدوا فيه ذلك ، لأنَّ فسادهُ معلوم بالضَّرُورةِ ، بل الأقربُ أن يقال : إنَّهُ كان دَهْرياً مُنكراً لوجود الصَّانِع ، وكان يقُولُ : مُدبِّرُ هذا العالم السُّفْلي هو الكواكِبُ ، وأنا المخدوم في العالمِ للخلق ، والمُربي لهم فهو نفسه .
فقوله : { أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى } [ النازعات : 24 ] أي : مُرببكم والمنعم عليكم والمطعم لكم .
وقوله : { مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرِي } [ القصص : 38 ] أي : لا أعلم لكم أحداً يجب عليكم عبادته إلاَّ أنا ، وإذا كان مذهبه ذلك لم يبعد أن يقال إنَّهُ كان قد اتخذ أصناماً على صور الكواكب يعبدها ، ويتقرب إليها على ما هو دين عبدة الكواكب ، وعلى هذا فلا امتناع في حمل قوله تعالى : { وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ } على ظاهره .
قوله : " قَالَ سَنُقَتِّلُ " قرأ نافعٌ{[16710]} وابْنُ كثير بالتخَّفيفِ سنقتل والباقون بالتضعيف لتعدُّد المحالّ . وسيأتي أنَّ الجماعة قَرَءُوا " يُقَتِّلُونَ أبناءكم " بالتضعيف إلاَّ نافعاً فيخفف .
فتخلص من ذلك أنَّ نافعاً يقرأ الفعلين بالتخفيف ، وابن كثير يُخَفف " سنَقْتُل " ويثقل " يُقَتِّلُونَ " ، والباقون يثقِّلونها .
قوله : " ونستحيي نِسَاءهُمْ " . أي نتركهم أحياء . والمعنى : أنَّ موسى إنَّما يُمْكنه الإفسادُ برهطه وبشيعته فنحنُ نسعى في تقليل رهطه وشيعته ، بأنْ نقتِّلَ أبناء بني إسرائيل ، ونستحيي نساءهم .
ثم بَيِّن أنَّهُ قادرٌ على ذلك بقوله : { وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ } أي : إنَّمَا نترك موسى لا مِنْ عجزٍ وخوفٍ ، ولو أردنا البَطْشَ به لقدرنا عليه .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.