اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَقَالَ ٱلۡمَلَأُ مِن قَوۡمِ فِرۡعَوۡنَ أَتَذَرُ مُوسَىٰ وَقَوۡمَهُۥ لِيُفۡسِدُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَيَذَرَكَ وَءَالِهَتَكَۚ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبۡنَآءَهُمۡ وَنَسۡتَحۡيِۦ نِسَآءَهُمۡ وَإِنَّا فَوۡقَهُمۡ قَٰهِرُونَ} (127)

[ اعلم أن فرعون كان كلما رأى موسى خافه أشد الخوف ، فلهذا لم يحبسه ولم يتعرض له بل خلى سبيله ، فقال له قومه : أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ] .

أي : يُفسدوا على النَّاسِ دينَهُمْ .

قوله : " وَيَذَركَ " العامةُ " ويَذَرَكَ " بالغيبةِ ، ونصب الرَّاءِ ، وفي النَّصْبِ وجهان :

أظهرهما : أنَّهُ عطف على " لِيُفْسِدُوا " والثاني : أنَّهُ منصوبٌ على جواب الاستفهام كما يُنْصب في جوابه بعد الفاء ؛ كقول الحُطيئةِ : [ الوافر ]

ألَمْ أكُ جَارَكُمْ ويكُونَ بَيْنِي *** وبَيْنَكُمُ المَوَدَّةُ والإخَاءُ ؟{[16705]}

والمعنى : كيف يكون الجمع بين تَرْكِكَ موسى وقومه مفسدين ، وبين تركهم إيَّاك وعبادةِ آلهتك ، أي : لا يمكن وقوعُ ذلك .

وقرأ الحسنُ{[16706]} في رواية عنه ونعيمُ بن ميسرة " وَيَذَرُكَ " برفع الرَّاء ، وفيها ثلاثة أوُجه :

أظهرها : أنَّه عطف نسق على " أتذر " أي : أتطلق له ذلك .

الثاني : أنه استئناف أي ، إخبار بذلك .

الثالث : أنَّهُ حالٌ ، ولا بدَّ من إضمارِ مبتدأ ، أي : وهو يَذَرُكَ .

وقرأ الحسنُ أيضاً والأشهبُ العُقَيْلِيُّ " وَيَذَرْكُ " بالجزم ، وفيه وجهان :

أحدهما : أنَّه جزم على التَّوهُّم ، كأنه توهَّم جزم " يُفْسِدُوا " في جواب الاستِفْهَامِ وعطف عليه بالجزمِ ، كقوله : { فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن } [ المنافقون : 10 ] بجزم " أكُنْ " .

والثاني : أنَّهَا تخفيفٌ كقراءة أبي عمرو { يَنصُرْكُمُ } [ آل عمران : 160 ] وبابه .

وقرأ أنس بن مالك " ونَذَرُكَ " بنون الجماعة ورفع الرَّاءِ ، تَوَعَّدُوهُ بذلك ، أو أنَّ الأمْرَ يؤولُ إلى ذلك فيكونُ خبراً محضاً . وقرأ عبد الله والأعمش{[16707]} بما يخالف السَّوادَ ، فلا حاجة إلى ذكره .

وقرأ العامةُ " آلهَتَكَ " بالجمع .

رُوِيَ أنه كان يعبدُ آلهةً متعددة كالبَقَرِ ، ولذلك أخرجَ السَّامري لهم عجلاً ، ورُوي أنَّهُ كان يعبدُ الحِجارةَ والكواكب ، أو آلهتَه التي شَرَعَ عبادَتَها لهم وجعل نَفْسَهُ الإله الأعلى في قوله : { أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى } [ النازعات : 24 ] .

وقرأ علي بنُ أبي طالب{[16708]} ، وابنُ مسعود ، وابن عبَّاسٍ ، وأنسٌ وجماعة كثيرةٌ " وإلاهتكَ " ، وفيها وجهان :

أحدهما : أنَّ " الإلاهَةَ " اسمٌ للمعبود ، ويكونُ المرادُ بها معبودَ فرعون ، وهي الشَّمْسُ .

رُوى أنَّهُ كان يعبُد الشَّمْسَ ، والشَّمْسُ تُسَمَّى " إلاهَةً " ، عَلَماً عليها ، ولذلك مُنِعَت الصَّرف ، للعمليَّة والتأنيث ؛ قال الشَّاعرُ : [ الوافر ]

تَرَوَّحْنَا مِنَ اللَّغْباءِ عَصْراً *** فأعْجَلْنَا الإلهَةَ أنْ تَئُويَا{[16709]}

والثاني : أنَّ الإلاهة مصدرٌ بمعنى العبادة ، أي وتذرُ عبادتك ، لأنَّ قومه كانوا يعبدونه .

ونقل ابنُ الأنْباري عن ابن عبَّاسٍ أنَّهُ كان يُنكر قراءة العامَّة ، ويقرأ " وإلاهتك " ، وكان يقول : إنَّ فرعون كان يُعْبَدُ ولا يَعْبُدُ .

قال ابنُ الخطيبِ : والذي يخطر ببالي أنَّ فرعون إن قلنا : إنَّه ما كان كامل العقل لم يَجُزْ في حكم اللَّهِ تعالى إرسال الرسول إليه ، وإن كان عَاقِلاً لم يَجُز أنْ يعتقدَ في نفسه كونه خالقاً للسَّمواتِ والأرضِ ، ولم يجز في الجمع العظيم من العقلاء أن يعتقدوا فيه ذلك ، لأنَّ فسادهُ معلوم بالضَّرُورةِ ، بل الأقربُ أن يقال : إنَّهُ كان دَهْرياً مُنكراً لوجود الصَّانِع ، وكان يقُولُ : مُدبِّرُ هذا العالم السُّفْلي هو الكواكِبُ ، وأنا المخدوم في العالمِ للخلق ، والمُربي لهم فهو نفسه .

فقوله : { أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى } [ النازعات : 24 ] أي : مُرببكم والمنعم عليكم والمطعم لكم .

وقوله : { مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرِي } [ القصص : 38 ] أي : لا أعلم لكم أحداً يجب عليكم عبادته إلاَّ أنا ، وإذا كان مذهبه ذلك لم يبعد أن يقال إنَّهُ كان قد اتخذ أصناماً على صور الكواكب يعبدها ، ويتقرب إليها على ما هو دين عبدة الكواكب ، وعلى هذا فلا امتناع في حمل قوله تعالى : { وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ } على ظاهره .

قوله : " قَالَ سَنُقَتِّلُ " قرأ نافعٌ{[16710]} وابْنُ كثير بالتخَّفيفِ سنقتل والباقون بالتضعيف لتعدُّد المحالّ . وسيأتي أنَّ الجماعة قَرَءُوا " يُقَتِّلُونَ أبناءكم " بالتضعيف إلاَّ نافعاً فيخفف .

فتخلص من ذلك أنَّ نافعاً يقرأ الفعلين بالتخفيف ، وابن كثير يُخَفف " سنَقْتُل " ويثقل " يُقَتِّلُونَ " ، والباقون يثقِّلونها .

قوله : " ونستحيي نِسَاءهُمْ " . أي نتركهم أحياء . والمعنى : أنَّ موسى إنَّما يُمْكنه الإفسادُ برهطه وبشيعته فنحنُ نسعى في تقليل رهطه وشيعته ، بأنْ نقتِّلَ أبناء بني إسرائيل ، ونستحيي نساءهم .

ثم بَيِّن أنَّهُ قادرٌ على ذلك بقوله : { وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ } أي : إنَّمَا نترك موسى لا مِنْ عجزٍ وخوفٍ ، ولو أردنا البَطْشَ به لقدرنا عليه .


[16705]:تقدم.
[16706]:ينظر: المحرر الوجيز 2/441، البحر المحيط 4/367، الدر المصون 3/625.
[16707]:ينظر: الكشاف 2/143، وقال الزمخشري : وقرئ: وإلاهتك أي عبادتك وروي أنهم قالوا له ذلك، لأنه وافق السحرة على الإيمان ستمائة ألف نفس، فأرادوا بالفساد في الأرض ذلك، وخافوا أن يغلبوا على الملك... وينظر: البحر المحيط 4/367، والدر المصون 3/325.
[16708]:المصدر السابق.
[16709]:البيت منسوب في التهذيب (أله) إلى عتيبة بن الحارث اليربوعي ، وفي اللسان (أله) إلى مية بنت أم عتبة ينظر القرطبي 7/167، والبغوي 2/189، ولباب التأويل 2/163.
[16710]:ينظر: السبعة 292، والحجة 4/71، 72، وإعراب القراءات 1/203، وحجة القراءات 294، والعنوان 97، وشرح الطيبة 4/304، وشرح شعلة 395، وإتحاف 2/60.