الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{وَقَالَ ٱلۡمَلَأُ مِن قَوۡمِ فِرۡعَوۡنَ أَتَذَرُ مُوسَىٰ وَقَوۡمَهُۥ لِيُفۡسِدُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَيَذَرَكَ وَءَالِهَتَكَۚ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبۡنَآءَهُمۡ وَنَسۡتَحۡيِۦ نِسَآءَهُمۡ وَإِنَّا فَوۡقَهُمۡ قَٰهِرُونَ} (127)

قوله تعالى : " وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض " أي بإيقاع الفرقة وتشتيت الشمل . " ويذرك " بنصب الراء جواب الاستفهام ، والواو نائبة عن الفاء . " وآلهتك " قال الحسن : كان فرعون يعبد الأصنام ، فكان يعبد ويعبد . قال سليمان التيمي : بلغني أن فرعون كان يعبد البقر . قال التيمي : فقلت للحسن هل كان فرعون يعبد شيئا ؟ قال نعم ، إنه كان يعبد{[7294]} شيئا كان قد جعل في عنقه . وقيل : معنى " وآلهتك " أي وطاعتك ، كما قيل في قوله : " اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله{[7295]} " [ التوبة : 31 ] إنهم ما عبدوهم ولكن أطاعوهم ، فصار تمثيلا . وقرأ نعيم بن ميسرة " ويذرك " بالرفع على تقدير وهو يذرك . وقرأ الأشهب العقيلي " ويذرك " مجزوما مخفف يذرك لثقل الضمة . وقرأ أنس بن مالك " ونذرك " بالرفع والنون . أخبروا عن أنفسهم أنهم يتركون عبادته إن ترك موسى حيا . وقرأ علي بن أبي طالب وابن عباس والضحاك " وإلا هتك " ومعناه وعبادتك . وعلى هذه القراءة كان يعبد ولا يعبد ، أي ويترك عبادته لك . قال أبو بكر الأنباري : فمن مذهب أصحاب هذه القراءة أن فرعون لما قال " أنا ربكم الأعلى{[7296]} " [ النازعات : 24 ] و " ما علمت لكم من إله غيري{[7297]} " [ القصص : 38 ] نفى أن يكون له رب مع إلاهة . فقيل له : ويذرك وإلاهتك ، بمعنى ويتركك وعبادة الناس لك . وقراءة العامة " وآلهتك " كما تقدم ، وهي مبنية على أن فرعون ادعى الربوبية في ظاهر أمره وكان يعلم أنه مربوب . ودليل هذا قوله عند حضور الحمام " آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنوا إسرائيل{[7298]} " [ يونس : 90 ] فلم يقبل هذا القول منه لما أتى به{[7299]} بعد إغلاق باب{[7300]} التوبة . وكان قبل هذا الحال له إله يعبده سرا دون رب العالمين جل وعز ، قاله الحسن وغيره . وفي حرف أبي " أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض وقد تركوك أن يعبدوك " . وقيل : " وإلا هتك " قيل : كان يعبد بقرة ، وكان إذا استحسن بقرة أمر بعبادتها ، وقال : أنا ربكم ورب هذه . ولهذا قال : " فأخرج لهم عجلا جسدا{[7301]} " [ طه : 88 ] . ذكره ابن عباس والسدي . قال الزجاج : كان له أصنام صغار يعبدها قومه تقربا إليه فنسبت إليه ؛ ولهذا قال : " أنا ربكم الأعلى " . قال إسماعيل بن إسحاق : قول فرعون " أنا ربكم الأعلى " . يدل على أنهم كانوا يعبدون شيئا غيره . وقد قيل : إن المراد بالإلاهة على قراءة ابن عباس البقرة التي كان يعبدها . وقيل : أرادوا بها الشمس وكانوا يعبدونها . قال الشاعر :

وأَعْجَلْنَا الإلاهَةَ أن تؤوبَا

ثم آنس قومه فقال " سنقتل أبناءهم " بالتخفيف ، قراءة نافع وابن كثير . والباقون بالتشديد على التكثير . " ونستحيي نساءهم " أي لا تخافوا جانبهم . " وإنا فوقهم قاهرون " آنسهم بهذا الكلام . ولم يقل سنقتل موسى لعلمه أنه لا يقدر عليه . وعن سعيد بن جبير قال : كان فرعون قد ملئ من موسى رعبا ، فكان إذا رآه بال كما يبول الحمار .


[7294]:في ز و ك: أن كان ليعبد.
[7295]:راجع ج 8 ص 199
[7296]:راجع ج 19 ص 198.
[7297]:راجع ج 14 ص 288.
[7298]:راجع ج 8 ص 337.
[7299]:من ب و ج و ز و ك.
[7300]:من ب و ج و ز و ك.
[7301]:راجع ج 11 ص 232 يلاحظ أن الآية في السامري.