التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز  
{قَالَ يَٰبُنَيَّ لَا تَقۡصُصۡ رُءۡيَاكَ عَلَىٰٓ إِخۡوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيۡدًاۖ إِنَّ ٱلشَّيۡطَٰنَ لِلۡإِنسَٰنِ عَدُوّٞ مُّبِينٞ} (5)

قوله : { قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا } بني ، مصغر للشفقة والتحبب . ورؤيا بمعنى الرؤية ، إلا أنها مختصة بما كان في النوم دون اليقظة . { فيكيدوا } ، منصوب بإضمار أن على جواب النهي ، وعدي الفعل { فيكيدوا } باللام ، مع أنه مما يتعدى بنفسه . والتقدير : فيحتالوا لك بالكيد . وقيل : اللام للعلة . أي فيكيدوا من أجلك . و { كيدا } منصوب على أنه مصدر مؤكد . وقيل : مفعول به ؛ أي فيصنعوا لك كيدا{[2200]} .

وأما الكيد ، فمعناه المكر والخبث والحيلة{[2201]} ؛ فقد خشي يعقوب أن يحدث يوسف برؤياه أحدا من إخوته مما يثير في نفوسهم الحسد والكراهية فيسول لهم الشيطان أن يزلقوه في غائلة من الغوائل أو الشرور . من اجل ذلك نهاه يعقوب عليه السلام أن يقص رؤيا على إخوته كيلا يحتالوا له حيلة أو مكيدة أو خديعة تمسه فتؤذيه . وفي الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( استعينوا على قضاء الحوائج بكتمانها ؛ فإن كل ذي نعمة محسود ) .

قوله : { إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } الشيطان خبيث وماكر ومخادع ، وهو أشد ما يكون كراهية للإنسان ؛ إذ يكيد له أبلغ الكيد في كل آن ، ويتحيل له طيلة الزمان أعتى الحيل والمكائد ليهوي بسببها في الهلكة والخسران سواء في الدنيا أو الآخرة ؛ فهو بذلك ظاهر العداوة لان آدم ، وهو من اجل ذلك لا يألو جهدا في إثارة الحسد لدى إخوة يوسف مما يسول لهم إيقاعه في النوائب أو في مهلكة من المهالك . مع أنهم من سلالة رسل عظام ، وقد نشأوا في بيت النبوة الطاهر . ولكنهم مع ذلك كان يمكن للشيطان أن يتدسس إلى نفوسهم الضعيفة فيسول لها ذميمة الحسد ويغويها بفعل المعاصي . وذلك يدل بما لا ريب فيه على أن إخوة يوسف ليسوا بأنبياء كما يزعم بعض القائلين بذلك . وذهب إلى عدم كونهم من النبيين أكثر العلماء من السلف والخلف ؛ فإنه لم ينقل عن الصحابة أو التابعين أنهم أنبياء . قال شيخ الإسلام بن تميمة في هذه المسألة : الذي يدل عليه القرآن واللغة والاعتبار أن إخوة يوسف عليه السلام ليسوا بأنبياء ، وليس في القرآن ولا عن النبي صلى الله عليه وسلم بل ولا عن أحد من الصحابة ( رضي الله عنهم ) خبر بأن الله تعالى نبأهم . وغنما احتج من قال بأنهم نبئوا بقوله تعالى في آيتي البقة والنساء : { والأسباط } وفسر ذلك بأولاد يعقوب . والصواب أنه ليس المراد بهم أولاده لصلبه بل ذريته ، كما يقال لهم : نبو إسرائيل . وكما يقال لسائر الناس : بنو آدم{[2202]} .

ولو كان إخوة يوسف أنبياء كأخيهم لذكرهم لله بالثناء كما ذكر أخاهم . وكذلك فإن النبيين لهم من المكاره والمحامد ما يناسب منزلة النبوة . وقد أثنى رسولنا صلى الله عليه وسلم على نبي الله يوسف فقال : ( أكرم الناس يوسف بن يعقوب بم إسحق بن إبراهيم نبي ابن نبي ) فلو كان إخوته أنبياء لشاركوه في هذا الثناء والكرم .

على أن النبوة لا يليق بها البتة كبريات المعاصي والآثام وكالذب ، وعقوق الوالدين ، وقطيعة الرحم ، وقتل النفس المؤمنة ظلما وعدوانا ، وإرقاق المسلم وبيعه إلى الكافرين في دار الكفر ! فأنى لنبيين يجيئهم الوحي من السماء أن يقترفوا هذه الفظائع من المنكرات ؟ ! لا جرم أن ذلك يدل أيما دليل على أن إخوة يوسف ما كانوا أنبياء . فالنبيون معصومون عن صدور مثل هذه القبائح والمنكرات قبل النبوة وبعدها{[2203]} .


[2200]:الدر المصون جـ 6 ص 439، 440.
[2201]:القاموس المحيط ص 403.
[2202]:روح المعاني جـ 12 ص 184.
[2203]:روح المعاني جـ 12 ص 183، 184 والبحر المحيط جـ 5 ص 281.