محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{قَالَ يَٰبُنَيَّ لَا تَقۡصُصۡ رُءۡيَاكَ عَلَىٰٓ إِخۡوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيۡدًاۖ إِنَّ ٱلشَّيۡطَٰنَ لِلۡإِنسَٰنِ عَدُوّٞ مُّبِينٞ} (5)

[ 5 ] { قال يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا إن الشيطان للإنسان عدو مبين 5 } .

{ قال يا بني } صغره لصغر سنه ، وللشفقة عليه ، ولعذوبة المصغر ، { لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا } أي فيفعلوا لأجلك أو لإهلاكك تحيلا عظيما متلفا لك . { إن الشيطان للإنسان عدو مبين } أي ظاهر العداوة ، فلا يألوا جهدا في إغواء إخوتك وحملهم على ما لا خير فيه .

قال القاشاني : هذا النهي من الإلهامات المجملة ، فإنه قد يلوح صورة الغيب من المجردات الروحانية في الروح ، ويصل أثره إلى القلب ، ولا يتشخص في النفس مفصلا ، / حتى يقع العلم به كما هو ، فيقع في النفس منه خوف واحتراز إن كان مكروها ، وفرح وسرور إن كان مرغوبا . ويسمى هذا النوع من الإلهام ، إنذارات وبشارات . فخاف ، عليه السلام ، من وقوع ما وقع قبل وقوعه ، فنهاه عن إخبارهم برؤياه احترازا ويجوز أن يكون احترازه كان من جهة دلالة الرؤيا على شرفه وكرامته ، وزيادة قدره على إخوته ، فخاف حسدهم عليه عند شعورهم بذلك . انتهى .

تنبيه :

قال السيوطي في ( الإكليل ) . قال الكيا : هذا يدل على جواز ترك إظهار النعمة لمن يخشى منه حسد ومكروه .

وقال ابن العربي : فيه حكم بالعادة أن الإخوة والقرابة يحسدون . قال وفيه أن يعقوب عرف تأويل الرؤيا ولم يبال بذلك ، فإن الرجل يود أن يكون ولده خيرا منه ، والأخ لا يود ذلك لأخيه .

وقال بعض المفسرين اليمانيين : قال الحاكم : هذا يدل على أنه يجب في بعض الأوقات إخفاء فضيلة ، تحرزا من الحسود . وهذا داخل في قولنا : إن الحسن إذا كان سببا للقبيح قبح . ومنه آية الأنعام{[4901]} : { ولا تسبّوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم } وفي هذا ما ذكر عن زيد العابدين :

إني لأكتم من علمي جواهره ***كي لا يرى الحق ذو جهل فيفتتنا

الأبيات المعروفة ، ذكرها عن زين العابدين ، الغزالي في ( منهاج العابدين ) والديلمي في كتاب ( التصفية ) . وهذا يعقوب صلوات الله عليه أمر يوسف أن لا يقص رؤياه على إخوته ، والمعنى واحد ، فلا معنى لإنكار من ينكر ويزعم أن العلم لا يحل كتمه . انتهى .

ومقصوده أنه خوف شر الأشرار من الصوارف عن الصدع بالحق .

/ وقال السيد ابن المرتضى اليماني في ( إيثار الحق ) : مما زاد الحق غموضا وخفاء خوف العارفين ، مع قلتهم ، من علماء السوء ، وسلاطين الجور ، وشياطين الخلق ، مع جواز التقية عند ذلك ، بنص القرآن ، وإجماع أهل الإسلام . وما زال الخوف مانعا من إظهار الحق ، وما برح المحق عدوا لأكثر الخلق .

وذكر رحمه الله قبل في الاستدلال على التقية ، أنه تعالى أثنى على مؤمن آل فرعون ، مع كتم إيمانه ، سميت به سورة ( المؤمن ) . وصح أمر عمار به وتقريره عليه ، ونزلت فيه{[4902]} : { إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان } . وقد صح عن أبي هريرة{[4903]} أنه قال في ذلك في العصر الأول : " حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاءين ، أما أحدهما فبثثته لكم ، وأما الآخر فلو بثثته لقطع هذا البلعوم " . قال الغزالي في خطبة ( المقصد الأسنى ) : من خالط جدير بأنه يتحامى . لكن من أبصر الحق عسير عليه أن يتعامى . انتهى .


[4901]:[6 / الأنعام /108].
[4902]:[16 / النحل / 106].
[4903]:أخرجه البخاري في : 3- كتاب العلم، 42- باب حفظ العلم، حديث رقم 103.