الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{قَالَ يَٰبُنَيَّ لَا تَقۡصُصۡ رُءۡيَاكَ عَلَىٰٓ إِخۡوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيۡدًاۖ إِنَّ ٱلشَّيۡطَٰنَ لِلۡإِنسَٰنِ عَدُوّٞ مُّبِينٞ} (5)

قوله تعالى : { لاَ تَقْصُصْ } : قرأ العامَّة بفكِّ الصادّيْن وهي لغةُ الحجاز . وقرأ زيد بن علي بصادٍ واحدة مشدَّدة ، والإِدغامُ لغةُ تميمٍ . وقد تقدَّم تحقيقُ هذا في المائدة عند قوله { وَمَن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ } [ المائدة : 54 ] .

والرؤيا مصدرٌ كالبُقْيا . وقال الزمخشري : " الرؤيا بمعنى الرؤية ، إلا أنها مختصةٌ بما كان في النوم دون اليقظة ، فرَّق بينهما بحَرْفَي التأنيث كما قيل القُرْبَةُ والقُرْبَى " .

وقرأ العامَّة " الرُّؤْيا " بهمزٍ مِنْ غير إمالة ، وقرأها الكسائي في رواية الدُّوري عنه بالإِمالة . وأمَّا الرؤيا ورؤياي الاثنتان في هذه السورة فأمالهما الكسائي من غير خلافٍ في المشهور ، وأبو عمرو يُبْدِلُ هذه الهمزةَ واواً في طريق السوسي . وقال الزمخشري : " وسمع الكسائي " رُيَّاك " و " رِيَّاك " بالإِدغام وضم الراء وكسرها ، وهي ضعيفةٌ لأنَّ الواو في تقدير الهمزة فلم يَقْوَ إدغامها كما لم يَقْوَ إدغام " اتَّزر " من الإِزار واتَّجَرَ من الأَجْر " يعني أنَّ العارض لا يُعْتَدُّ به ، وهذا هو الغالب . وقد اعتدَّ القُرّاءُ بالعارض في مواضع ستقف بها على أشياءَ إن شاء اللَّهُ نحو " رِيَّا " في قوله { أَثَاثاً وَرِءْياً } [ مريم : 74 ] عند حمزة ، و { عَاداً الأُولَى } [ النجم : 50 ] .

وأمَّا كسرُ " رِيَّاك " فلئلاَّ يؤدِّي إلى ياء ساكنة بعد ضمة ، وأمَّا الضمُّ فهو الأصل ، والياءُ صد اسْتُهْلِكَتْ بالإِدغام .

قوله : { فَيَكِيدُواْ } منصوبٌ في جواب النهي وهو في تقدير شرط وجزاء ، ولذلك قدَّره الزمخشري بقوله : " إنْ قصصتها عليهم كادوك " . و " كَيْداً " فيه وجهان ، أحدهما : وهو الظاهر أنه مصدرٌ مؤكدٌ ، وعلى هذا ففي اللام في قوله " لك " خمسةُ أوجهٍ ، أحدُها : أن يكون " يكيد " ضُمِّن " معنى ما يتعدَّى باللام ؛ لأنه في الأصل متعدٍّ بنفسه قال تعالى : { فَكِيدُونِي جَمِيعاً } [ هود : 55 ] والتقدير : فيحتالوا لك بالكيد . قال الزمخشري مقرراً لهذا الوجه : " فإنْ قلتَ : هلاَّ قيل : فيكيدوك كما قيل فكيدوني . قلت : ضُمِّن معنى فعلٍ يتعدَّى باللام ليفيدَ معنى فعلِ الكيد مع إفادة معنى الفعل المضمَّن فيكون آكدَ وأَبْلَغَ في التخويف وذلك نحو : فيحتالوا لك ، ألا ترى إلى تأكيده بالمصدر " .

الوجه الثاني من أوجهِ اللام : أن تكونَ مُعَدِّيةً ، ويكون هذا الفعلُ ممَّا يتعدَّى بحرفِ الجر تارةً ، وبنفسهِ أخرى كنصح وشكر ، كذا قاله الشيخ وفيه نظرٌ ، لأنَّ ذاك بابٌ لا يَنْقاس إنما يُقْتصر فيه على ما ذكره النحاةُ ولم يَذْكروا منه " كاد " .

الثالث : أن اللامَ زائدةٌ في المفعول به كزيادتها في قوله { رَدِفَ لَكُم }

قاله أبو البقاء وهو ضعيف ؛ لأنَّ اللامَ لا تُزاد إلا بأحد شرطين : تقديم المعمولِ أو كونِ العاملِ فرعاً .

الرابع : أن تكونَ اللامُ للعلة ، أي : فيكيدوا من أجلك ، وعلى هذا فالمفعولُ محذوفٌ اقتصاراً أو اختصاراً . /

الخامس : أن تتعلَّق بمحذوفٍ ، لأنها حالٌ مِنْ : " كَيْداً " إذ هي في الأصلِ يجوزُ أن تكونَ صفةً لو تأخَّرَتْ " .

الوجه الثاني مِنْ وَجْهَيْ " كَيْداً " أن يكونَ مفعولاً به ، أي : فيصنعوا لك كيداً ، أي : أمراً يكيدونَك به ، وهو مصدرٌ في موضع الاسمِ ومنه { فَأَجْمِعُواْ كَيْدَكُمْ } [ طه : 64 ] ، أي : ما تكيدون به ، ذكره أبو البقاء وليس بالبيِّن ، وعلى هذا ففي اللامِ في " لك " وجهان فقط : كونُها صفةً في الأصل ثم صارَتْ حالاً ، أو هي للعلة ، وأمَّا الثلاثةُ الباقيةُ فلا تتأتَّى وامتناعُها واضح .